تلك الشعوب التي تستحق جلّاديها
الساعة 05:23 مساءً


                                                                         

مع فشل الربيع اليمني، عادت نغمة قديمة قِدم حركة التحرر اليمنية، نغمة “الشعب الجاهل الذي يستحق الجلاد”.

وعلى رغم أن الشعب هو الخاسر الوحيد بعد نجاح النخبة السياسية في النجاة بنفسها والحفاظ على مستوى الحياة الرغيدة التي تعوّدت عليها، سواء بقيت في اليمن أو غادرته إلى المنافي، معتمدة على مرتبات الريع العالية والمناصب الكبيرة، إلا أن النخبة المرفّهة لم تجد مانعاً في اتهام الشعب بأنه السبب في فشل التغيير، ويستحق البؤس الذي يعيشة اليوم.

وتصدّر “ثوار الربيع” الترويج لهذه النغمة مدّعين أنهم قدّموا كل شيء لهذا الشعب الجاهل الكادح الذي قابل تضحياتهم بالنكران.

لكن ظاهرة الثائر الذي يلعن الشعب تعود إلى 70 عاماً خلت وأكثر.

“لعن الله شعباً أردتُ له الحياة فأراد لي الموت”.
ربما تكون هذه أشهر عبارة في تاريخ حركة التحرر اليمنية. 

وليست العبارة المنسوبة إلى الضابط أحمد الثلايا في ساحة الإعدام بعد قيادته حركة تمرد الجيش ضد الإمام أحمد عام 1955 فريدة من نوعها، فالثوار الأوائل، “حركة الأحرار اليمنيين”، تفننوا في إطلاق عبارات بليغة تتهم الشعب بالتخلف والجهل وتحمِّله مسؤولية فشل التغيير. فها هو رمز آخر من رموز الأحرار، الشهيد أحمد الحورش، أحد الذين أعدموا ضمن ثوار حركة 1948 يودع الحياة بعبارته الشهيرة أيضاً “يا شعبنا كلما ارتفعنا بك شبراً سقطت ذراعاً”.

التقط الشاعر عبد العزيز المقالح هذه العبارة ليكتب قصيدة “حكاية مصلوب”، يتوجه فيها الحورش بخطاب تخيلي إلى الشعب اليمن يعلن فيه كراهيته لليمنيين ومحبته للجلاد الذي:

” أتى بكم من الكهوف كالجرذان
لتشهدوا نهاية الرجال
نهاية الإنسان
يا أيها الأنذال، يا جرذان!”.

صحيح أن القصيدة تطغى عليها عاطفة توديع علم من أعلام الثوار اليمنيين، لكن الاندفاع الاستثنائي إلى محبة الجلاد، ووصف شعب بالجرذان لا مثيل له في الأدبيات الثورية للشعوب الأخرى على حد علمي.

أما “أبو الأحرار”، الشاعر محمد محمود الزبيري، فرأى الاستبداد نتيجة مستحقة لهذا الشعب الميت، فكتب قصيدته “رثاء شعب” ناعياً الشعب اليمني، وكال له الاتهامات على أنواعها، من عبادة الطغاة إلى استحباب حياة الرق والعبودية.

وأدلى عبد الله الوزير إمام حركة 1948، بدلوه من الاحتقار الثوري النخبوي للشعب عندما قال للمواطنين الذين قبضوا عليه: ” كنا نريد أن نعزكم من سرقة الأحذية في الجوامع”.

من ظواهر ما بعد الهزيمة أن يتحول الثائر من النقيض إلى النقيض ليتبنى وجهة نظر الجلاد.

فالثائر يثور من منطلق أن الشعب يستحق حياة أفضل، لكنه وقد فقد رشده من مرارة الهزيمة ينقلب من النقيض إلى النقيض، ليتبنى وجهة نظر الجلاد الدائمة، أن الشعب لا يستحق أكثر من هذا البؤس والاستبداد، ويحمّل الثوار الشعب مسؤولية فشل الثورة أو تعثرها. فبعد ثورة 1962 والنفق المسدود الذي دخلت فيه، عادت نغمة “الشعب الفوضوي” و”الشعب الجاهل” من جديد. وبعد الوحدة عام 1990، بدأ الحديث عن عدم جاهزية الشعب الجاهل للوحدة والديموقراطية والتعددية.

وبدلاً من توجيه النقد الذاتي لسوء قيادة الثورة وسذاجة الثوار في التخطيط والتنفيذ، يصبح الشعب كبش فداء النرجسية الثورية ووقود حقد جديداً، يوجهه الثوري ضد الشعب.

لكن الجديد في الحالة اليمنية أن الثائر المنقلب على الشعب والحاقد على المواطنين المضطهدين أصبح في السلطة (سواء كانت سلطة المنفى أو سلطة الأمر الواقع في الداخل). 
وجزاء للشعب “الجاحد” كان ثوار الربيع اليمني أكبر المدافعين عن سياسة العقاب الجماعي ضد اليمنيين عبر قطع المرتبات عن الموظفين والتحريض على إغلاق المطارات والمنافذ البرية وفرض جبايات باهظة على عاتق المواطن الذي فقد مصادر دخله، ومصادرة هامش الحريات المحدود وإخماد أصوات النقد مهما كانت متواضعة.

وطالب بعض الثوار وضع اليمنيين بين خيارين، إما الذهاب الى جبهات الحرب والموت دفاعاً عن كرامتهم، أو البقاء محاصرين داخل أسوار العقاب الجماعي. على الشعب أن يختار الصفقة الثورية التي يطرحها الثأر الناقم “الموت أو الجوع”!

ولم يفوّت أنصار النظام السابق الفرصة للعزف على النغمة ذاتها، واتهام الشعب باستحقاقه عن جدارة حال البؤس التي يعيش فيها اليوم، لأنه تمرد على النعمة والاستقرار في عهد “الزعيم”.

كان الخطاب الديني الموالي للسلطة يتهم المواطنين بالسبب في ارتفاع الأسعار وزيادة معدل البطالة بسبب “معاصيهم” وابتعادهم من الله. وكان الخطاب السياسي الموالي للسلطة يلتقط الخيط ليحمل المواطن مسؤولية الفشل والظلم الاجتماعي وتعثر دور الدولة في تحقيق التنمية.

وها هو الثائر اليوم يرتدي ثوب الجلاد، ويعيد تفسير الحروب والتدهور الاجتماعي والاقتصادي إلى عوامل داخلية نفسية للشعوب والأفراد، وهي وجهة نظر رجعية تقوم على فكرة أن كل ما يحدث في الحياة عادل، وأن الضحايا يستحقون ما يحدث لهم لأنهم لو لم يكونوا سيئين لما حدث لهم ما حدث.

يقال إن الثورات تندلع للأسباب للأسباب ذاتها: الفقر، والأمية، وتجربة القهر الطويلة التي تجعل الإنسان البسيط متحفظاً على أي محاولة لتغيير الحكم القائم خوفاً مما هو أسوأ.

ولهذا ينظر المواطن البسيط بعين الريبة والشك إلى طرفي المعادلة: الثائر والجلاد. وعندما يرى أن الثائر تحوّل إلى نسخة أسوأ من الجلاد فلا تحدّثه عن الثورة بعد ذلك.

تستطيع من برجك العاجي أن تردّد البيت المعروف:

شعب إذا ضرب الحذاء بوجهه
سأل الحذاء بأي ذنب أضرب.

ولأن قائل البيت مجهول، تفنن ثوريو كل بلد عربي في نسبه إلى شاعر أو ثائر منهم.

فمنهم من نسبه إلى معروف الرصافي، ومنهم من نسبه إلى أحمد شوقي، في اليمن نسبه البعض إلى الضابط عبد الله اللقية الذي قتل بعد محاولته اغتيال الإمام أحمد عام 1961، ومنهم من نسبه الى الشاعر الزبيري. لكنه ولا تستغربوا لو عرفتم أنه البيت الشعري الأكثر تداولاً بين ثوار اليوم، الذين لن يترددوا في إخبارك وبكل ثقة أن على “هذا الشعب” أن يعاني 50 سنة حتى يعرف “قيمتنا”.

لكن الشعوب لا تقود الثورات، ولا يوجد “ثورة شعبية” في التاريخ كله. فالثورات قادتها نخبة منظمة استطاعت تجييش بعض فئات المجتمع لمصلحتها. أما فشل الثورة أو نجاحها فيتحمله الثائر أولاً وأخيراً.
                                                                    

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان