الحوثية والأقيال.. قراءة في ضوء نظرية التحدي والاستجابةالاثنين
الساعة 07:43 مساءً

تعودُ نظريّة التحدي والاستجابة للفيلسوف والمؤرخ البريطاني المعاصر، "آرنولد توينبي" 1889 ــ 1975م؛ أستاذ الدراسات اليونانيَّة والبيزنطيَّة في جامعة لندن، ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية؛ وقد خلص إليها من خلال دراسته للتاريخ وفلسفته في كتاب خاص بذلك، قضى في تأليفه أربعين عاما، والموسوم: "دراسة للتاريخ"، في 12 مجلدًا. قدم المركزُ القومي للترجمة في القاهرة دراسة مختصرة له في أربعة أجزاء. وأصلُ النظرية ــ كما يشيرُ إلى ذلك توينبي نفسه ــ يعود إلى علم النفس التحليلي، وتحديدا "كارل يونج" 1875 ــ 1961م. وخلاصة هذه النظرية تقرر أنّ "الفَردَ الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفقدُ توازُنَه لفترةٍ ما، ثُم قد يستجيبُ لها بنوعَين من الاستجابة: الأُولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به، تعويضًا عن واقعه المُرّ؛ فيُصبح انطوائيًّا. والثانية، تقبُّل هذه الصّدمة والاعتراف بها، ثمَّ مُحاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيًّا. فالحالة الأولى تُعتَبرُ استجابةً سلبيَّة، والثانية إيجابيَّة بالنسبة لعلم النفس". إ. هـ. 

والتحدي والاستجابة ــ في جزء منها ــ حالة من الجدل الهيجلي، والتي تناولتُها سابقًا في مقال "الحوثية من منظور ديالكتيكي"، في القانون الثاني "وحدة صراع الأضداد". 

ونستقرئ هنا بعضًا من ملامح "التحدي والاستجابة" في شقيها الإيجابي والسلبي، لنصل في النهاية إلى تشريح الحالة اليمنية المعاصرة، أنموذج: "الحوثية والأقيال". 

في مطلع القرن العشرين، فما بعده نشأت ثلاثة مسارات إصلاحية في المنطقة العربية. 

المسار الأول: حركة القومية العربية في أكثر من قطر عربي، كاستجابة حتميّة لتحدي "الكرباج" التركي في نسخته العثمانية الذي استبد بالمواطن العربي، وخاصة في بلاد الشام؛ حيث تغول الظلم هناك بصورةٍ أكبر من أي مجتمع آخر؛ إذ حين فرض العثمانيون هويتهم التركية، استدعى العربُ هُويتهم التاريخية، لمواجهة هذا الغزو، داعين إلى الوحدة العربية، على أساس اللغة والعرق والتاريخ، ونشأت أصوات تنظيرية كثيرة في منتصف القرن العشرين، ساطع الحصري.. أنموجًا. هذا فيما يتعلق بالمسار الأول، من فصيل المثقفين العرب ذي الاتجاه العروبي.

المسار الثاني: الإسلاميون، وذوو النزعة الدينية بشكل عام، فقد كانوا يرون في "الطربوش" العثماني رمزية دينية جامعة لهم، وهو ــ على أية حال ــ أخف عليهم من قبعة المحتل البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي؛ ومع ذلك فحين سقط العثمانيون نهائيا تبدت ملامح "التحدي" في البحث عن بديل آخر؛ حيث نشأت حركات الإصلاح الديني، ذات النزعة الراديكالية، متمثلة في: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وانتهاءً بحسن البنا، المؤسس الأول لجماعة الإخوان المسلمين، الذي أراد تأسيس خلافة إسلاميّة بديلة عن خلافة "الباب العالي" التي أفلت شمسُها آنذاك، إلا أنهم لم يحققوا أي بديل، فنكصوا في الماضي متغنين به، ولم يعبروا إلى المستقبل..! 

وحتى تتضحَ الصورةُ أكثر لن ننسى الإشارة إلى الدور البريطاني هنا في الحضور على طريقته في دعم وتشجيع المسارَين المذكورَين في البداية، لحساباتٍ خاصة به، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولم يكن تأسيس جامعة الدول العربية في العام 1945م إلا واحدة من هذه السياسات... إلخ؛ مع أن البريطانيين قد أحسُّوا بخطر ما من تعملق جماعة الإخوان المسلمين الناشئة نهاية أربعينيات القرن الماضي، خاصة عقب حرب 48م، في فلسطين، فكان حلُّ جماعة الإخوان المسلمين في مصر قرارًا بريطانيا قبل أن يكون مصريًّا بأمر الملك فاروق. وهذا موضوع يطول شرحه. 

المسار الثالث: اليساريون العرب الذين لم ترق لهم توجهات المسارين السابقين، وتأثروا لاحقًا بما وصل إليه الروس عقب الثورة البلشفية التي نقلت روسيا من تخلف القرون الوسطى إلى أنوار القرن العشرين خلال عقدين أو ثلاثة فقط، فأرادوا محاكاتها ولكن...!

وعلى أية حال.. وعودة إلى الاستجابة "التوينبيّة" هل كانت سلبية أم إيجابية؟!

الواقع أن الفصائل الثلاث "القومية، الإسلامية، اليسارية" والتي حكمت في القرن العشرين قد أفضت جميعها إلى الفشل، أوقل أخفقت إذا ما أحسنا الظن بها. الجميع في التخلف شرق. فشلَ العُروبي، كما فشل اليساري، كما فشل الإسلامي أيضا، بعد مئة عام من المحاولة هنا وهناك، ولهذا فما كادت شمس العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تغربُ حتى تفجرت حركة الاحتجاجات الشعبية في أكثر من قطر عربي، باحثة عن الضرورات الحياتية، وبعضها باحثة عن الدولة المفقودة أساسًا "اليمن وليبيا".. أنموذجا. ويبقى نموذج آخر في المنطقة وهو النموذج الخليجي ذو الخصوصية المتفردة عن بقية الأقطار العربية. 

هذا استطرادٌ طويلٌ، قد يبدو بعيدًا عن الفكرة الرئيسية هنا. 

وعودة إلى الحالة "الحوثية الأقيالية" اليمنية على ضوء "التحدي والاستجابة..

تحدى الإماميون الشعب اليمني فجرجروا نظريتهم الهادوية العتيقة منذ ما يزيد عن ألف ومئتي عام، ليفرضوها على الشعب اليمني؛ لكنهم كانوا أغبى من أن يستشعروا خطر هذا التحدي، والمتمثل في الاستجابة التلقائية من الشعب الذي استدعى حضارته التاريخية العريقة، منذ خمسة آلاف عام..! 

استدعى الإماميون ــ والحوثيون رأس حربتهم ــ جدّهم الهادي وابن حمزة وآل شرف الدين والمتوكل وبيت حميد الدين.. إلخ، فاستدعى اليمنيون ــ والأقيال رأس حربتهم ــ جدهم الأول: قحطان والحارث الرائش وبلقيس وكرب إل وتر وشمر يهرعش وسيف بن ذي يزن.. إلخ.!! في جدليّة حتمية يقررها القانون الثاني من قوانين الجدل الهيجلي "وحدة صراع الأضداد" والذي فصلناه في دراسة سابقة. وإلى هذه الفكرة أشار الشاعر الشعبي بقوله: 

أَنَا مَعَ صَعْــدَه إِذَا صَعْــدَه مَعي وإن هي مع الحوثي تراني ضدها 

وإن قام يحيى با يقوم القردعي وكل أســـــــرة با تقـــوّم جـــدها

إنه مبدأ السّيرورة والصّيرورة الذي تفرزه آلية الزمن بصورة تلقائية، فارضًا نفسه بنفسه؛ ذلك لأن الشّيءَ يولد ويولد نقيضه معه مباشرة. وقديمًا قيل: "لكل نعمة ضد" كما قال الشاعر أيضا: 

لكل شيء آفةٌ من جنسه حتى الحديد سطا عليه المِبردُ

إن من يُلمُّ، وإن بالحد الأدنى من تاريخ اليمن، منذ مجيء يحيى حين الرسي وإلى اليوم يجد أنه لم تتشكلْ حركة وعيٍ جمعي وطني كما تشكلت اليوم، صحيح أن الهمداني وضع الباكورة الأولى، ثم جاء بعده نشوان، ثم المطرفية، ثم حركة الإصلاح الديني حتى "صيحات الزبيري" في القرن العشرين؛ لكنها جميعًا لا ترقى إلى حالة التثاقف الشبابي "الأقيالي" والجدل الشعبي اليوم، على ما في دعوة بعض الأقيال من تجاوز أحيانا. إنما هل يدرك المتسلطون ذلك؟ ما أغبى الحكام حين يتسلطون..! والحقيقة أن ذكاء أي فرد أو جماعة أو كيان يكاد يتوقف حين يصل إلى السلطة.!

يُقال إن العقل ينمو مع الخطر المحدق به، فإذا ما شعر العقل بالأمان أو توهم أنه في أمانٍ توقف نشاطه، ولهذا نجد كثيرًا من الحكام يأبون إلا أن يمارسوا غباءهم إلى آخر لحظة. تأتيهم مئاتُ الإنذارات والتحذيرات قبل سقوطهم، أو إسقاطهم، ومع ذلك لا يشعرون بمخاطرها، ولا يحسون بها، على وضوحها؛ إذ يتوهمون أنهم بمعزل عن أي مخاطر من أي نوع، وفجأة يقعون فيها..! الحقيقة تنطبق حتى على عالم الحيوانات أيضا، فكلما كبر جسمُ الحيوان قلَّ ذكاؤه، وكلما صغر جسمه زاد ذكاؤه.! الأمر كذلك مع "الحيوانات البشرية الناطقة"..! 

إنك حين تركضُ وراء شخصٍ للإمساك به، فإنك ــ ومن وجه آخر ــ تعلمه المزيد من الركض والفرار، وتساعده على النشاط واكتشاف ما خلف مكان الركود والهمود الذي كان قابعًا فيه..! وإنك حين تحاصرُ خصمك ــ بأي طريقة من الطرق ــ فإنك تساعده على الالتفاف ثم الانقضاض عليك في أسوأ صورة من صور الانتقام؛ لأن ردة فعل البئيس والمحبط لا يوازيها عنف؛ إذ كلما زاد الإحباط زادت حدة الانتقام. فهل يتوقع الحوثيون أن "يطوّعوا" الشعب لإرادتهم؟ هذا في عداد المستحيل، بكل معادلات المنطق؛ لأن هذا الكيان سقط وهو دولة قائمة في مطلع ستينيات القرن الماضي، بامتداده التاريخي والثقافي، ويستحيل أن يعود وهو عصابة مذمومة خرجت من الكهف، بلا شرعية أو مشروع..! 

سلبية الصدمة أم إيجابيّتها؟ 

في كتابي "روح اليمن.. الحجرية المال في موكب النضال" توقفت عند حالة من حالات التحدي لمجتمعين اثنين في اليمن، كلاهما تلقيا تحديًّا إماميًّا قاهرا من قبل يحيى حميدالدين، في وقت واحد: مجتمع الزرانيق في تهامة، على يد ولي العهد أحمد، ومجتمع الحُجرية في تعز على يد نائب الإمام في تعز علي الوزير "شريك الإمام يحيى" في الحكم آنذاك، أو هكذا كان يرى نفسه. 

تم قمع هذين المجتمعين بصورة بشعة، لا مثيل لها في مختلف المناطق التي أخضعها الإمام يحيى لحكمه؛ وعلى واحدية القمع والاستبداد والبطش "التحدي" إلا أن "الاستجابة" كانت مختلفة عند كلٍ منهما. 

كانت صدمة الحجرية تجاه ما حصل لهم من قهرٍ واستعبادٍ خلال عشرين عامًا من إمارةِ علي الوزير على تعز، ونصفها من ولي العهد أحمد إيجابية، من خلال الطاقة الكامنة التي تكتنز بها تلك الروح والتي تعمل على تحقيق الذات برد فعل إيجابي أكبر من طاقة التحدي نفسه؛ أي التعامل الإيجابي مع التحدي الذي واجهوه، فالعصَا الغليظة التي تُرفع أمام الجمهور تذلُّ ذوي النفوس الضّعيفة؛ لكنها تستفزُّ الأحرار. ولو تأملنا حركة التاريخ وأحداثه العظمى في التحولات لوجدناها قائمة أساسا على فلسفة الفعل ورد الفعل، كما أشرنا إلى ذلك سابقا.  

وهكذا تتوالدُ الأحداثُ الكبرى من المتغيرات الكبرى في الحياة، سواء كانت من أحداث الطبيعة ذاتها التي تصنع تحديا أكبر، كما هو الشأن مع الإنسان الياباني الذي تحدى طبيعته القاسية بإبداع من وحي هذا التحدي، أو من أحداث الإنسان نفسه، كما هو الشأن مع ألمانيا التي امتصت صدمتها إيجابيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحولت إلى دولة عظمى، وقد كانت في حكم "الموات" عقب انتهاء الحرب التي هُزمت فيها. وما ينطبق على هذين الشعبين باتساعهما، ينطبق أيضا على المجتمعات الصغيرة بمحدوديتها. 

لقد قُمعت كثيرٌ من المجتمعات والكيانات، فكانت صدمتُها سلبية بحسب إشارة "توينبي"؛ إذ خضعت خضوعًا مبالغًا فيه، بعد أن كانت شامخة شموخًا مبالغا فيه، وإلى هذه الفكرة أشار البردوني في كتابه اليمن الجمهوري إلى صراع الزرانيق مع الإمام يحيى بقوله: "فهم أشرس من تمرد وأطوع من خضع للغالب". وهذه هنا هي الصدمة السلبية التي تحدث عنها توينبي. 

لقد ظلت الحُجرية سيدة الزمان والمكان ثقافيًا واقتصاديًا لعقود، حتى برز لاعبون آخرون، أكثر ذكاء؛ لكنهم أقل أخلاقيّة، فغُلبت على أمرها؛ لأن منطق الصراع يقرر أن الفوز في الصّراعات السياسيّة للأكثر ذكاء، لا للأكثر أخلاقا، بحسب إشارة الفيلسوف المؤرخ "جوستاف لوبون" في كتابه: "السُّنن النفسية لتطور الأمم". 

هذا عن الإمام يحيى مع هذين المجتمعين سابقا. فما حال الحوثي اليوم مع الشعب اليمني قاطبة؟! 

حتى الآن ــ ورغم أننا لا نزالُ في وسط المعترك ــ لكن كلّ المؤشرات تقررُ أن الصّدمة إيجابية، وأن الاستجابة الشعبيّة لحالة "التحدي" الحوثي ستكون غير كل الحالات السّابقة التي كررها أجدادُ الحوثي في السابق. 

حالة الوعي بالخطر الإمامي اليوم أوسع مدى وأشد حساسيّة، وتموجات الفكر والتثاقف اليومي ــ وخاصة بين الأوساط الشبابية ــ لن تتلاشى؛ بل ستتعزّزُ يومًا بعد يوم، وهي بداية النهاية لأسوأ كيان سلالي عبر التاريخ. 

لقد خاب ظنُّ الشعب في كل الأحزاب السّياسيّة التي اغتربت خلال العقود السّابقة عن قضاياه الجوهرية، بعد أن مارست نوعًا من الطفولة السياسية في التعاطي مع قضايا الوطن الكبرى، والآن تتطلع الأنظار نحو الأقيال، كبديل سياسي واجتماعي للمنظومة السياسية الشائخة التي فشلت في الحكم، كما فشلت في المعارضة على حد سواء؛ وبالتالي فالحركة الأقيالية مستقبلا أمام اختبار صعب؛ لأنها تحملُ اليوم بذور النجاح ومؤهلات الفوز، ومن أكبر مؤهلاتها سوء خصمها وسيئاته التي لا حدود لها. فهل سيكونون على مستوى التحدي؟ هذا ما ستجيب عنه فصول المرحلة القادمة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان