حُبيش.. حيث يرتسم الرفض
الساعة 07:10 صباحاً

حُبيش.. قِصة صُمود، ومَكمن رفض، وأصل تحدِ، تَوزعت على مُرتفعاتها الشهباء بُطولات أجيال وحِقب، وتهاوت في أوديتها الخضراء مَراتب ورُتب، وتَهادت من سُفوحها الخضراء عَبرات وعِبر؛ ولهذه الاعتبارات وغيرها، وقع اختيارها لمُواجهة التوغل الإمامي المُتوكلي في لحظاته الأولى، فأدت دورها المرسوم بعناية، ولولا الخذلان الذي اعترى انتفاضتها المائزة تلك، والخيانة التي لازمت نهايتها، لكانت أوقفت ذلك التوغل، وطمست مَلامح أربعة عُقود من الاعتساف والظلم.

حبيش وبس ما أنْ قام الإمام يحيى حميد الدين بإرسال مَجاميع قبلية لإخضاع مناطق اليمن الوسطى (تعز، وإب)، حتى حَصل في تلك المناطق الاضطراب، لتأتي انتفاضة حبيش تحت قيادة الشيخ الشاب محمد عايض العقاب، وبدعم وتحفيز من بعض المشايخ، وتُغَير من سياسة ذلك الإمام التوسعية؛ فلم يعد ذلك الطامح المُهادن، الباحث بالرسائل والأعطيات المحدودة عن ولاء مشايخ القبائل، كشر هذه المرة عن أنيابه، وأظهر صورته الحقيقية دون رتوش.

       كانت انتفاضة حُبيش، ذريعة الغزو الإمامي بِصورته الفظيعة، وقع الاختيار حينها للذئب الأسود علي بن عبدالله الوزير أنْ يكون أميرًا للجيش، وصدر - كما أفاد المُؤرخ عبدالكريم مطهر - الأمر المُتوكلي إليه بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات اليمن الأسفل، وضمها بالقوة لحضيرة الدولة الإمامية.       من جِهته قال المُؤرخ أحمد الوزير إنَّ الإمام يحيى خاطب الأمير علي الوزير قائلًا: «لا تعمل شيئًا سوى إخضاع حُبيش، وعندما تنتهي منها لا مانع من أنْ تكتب لمشايخ العدين، وتطلبهم إليك، فإذا امتنعوا عن إجابة الطلب، فلا تفتح معهم حَربًا، ولا مع أحد، وأنَّه لا بد من تعز، ولكن عندما يحين الوقت المناسب»، وأضاف ذات المُؤرخ أنَّه - أي الإمام - عندما ودع عمه الأمير همس في أذنه قائلًا: «حُبيش وبس».    

   وبين هذا القول وذاك، تبقى رواية المُؤرخ مطهر هي الأقرب للحقيقة؛ لاعتبارات عِدة، أهمها أنَّ المُؤرخ أحمد الوزير أصبغ على الإمام يحيى صفة القائد المُتردد، وأصبغ على علي الوزير صفه القائد المُبادر، الذي سيطر على حبيش وما بعد حبيش بجهوده الذاتية، مُعرضًا في ذات الوقت بقادة آخرين فشلوا في حين نجح عمه الأمير، وقال في حق الأخير: «لم يُشْعِر الأمير الإمام بشيء من تحركاته القادمة بعد حُبيش، وقد اتخذ كل قرارته بدون أنْ يعلم عنها الإمام شيئًا»!         وهكذا، وبتكليف من الإمام يحيى، خرج الأمير علي الوزير من صنعاء، ومعه 3,000 مُقاتل من الجيش البراني، مُعظمهم من خولان، وبلوكين من الجيش النظامي، ومدفعين رشاشين، وقيل أكثر من ذلك، وما يحتاج إليه من عُدة الحرب، خَرج لتأديب حُبيش، حُبيش التي ثارت تحت قيادة الشيخ محمد عايض العقاب.   

    كان الشيخ العقاب أحد مشايخ المناطق الوسطى الذين توجهوا لمُقابلة الإمام يحيى فور دخوله صنعاء 19نوفمبر 1918م، وكان أيضًا من أوائل المشايخ الذين رفضوا الدخول في طاعة ذلك الإمام، ونُقل عنه - كما أفاد الباحث علي محمد عبده - قوله بعد مغادرته المقام الإمامي الشريف: «والله لن يحكمني أناس بِهذه الوحشية».       قام الشيخ العقاب في بداية العام التالي ومعه عدد من أبناء منطقته بالهجوم على العساكر الإماميين المُتواجدين في جبل حُبيش، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم حاكم الجبل القاضي عبدالله بن محمد يونس في مركز الناحية (ظَلْمَة)، وتحديدًا في دار الحكومة التي بناها الأتراك.    

   أرسل سيف الإسلام أحمد بن قاسم حميد الدين المُتواجد حينها في مدينة إب بقوات إمامية إلى تلك الجهة، تحت قيادة شقيقه عبدالله، وقد تَعرضت هي نفسها للهزيمة، ثم للحصار، وذلك بعد أنْ خاضت مع الثوار مُواجهات شرسة، أوجزها المُؤرخ مُطهر بقوله: «وكانت الحروب بين المُخالفين من أهل حُبيش، وجنود الإمام.. مُستمرة، والمحطات بهم محُدقة، ولكن الجند الإمامي لم يتيسر له إخماد نيران بغيهم وجهلهم، والانتصاف منهم بما ارتكبوه من عظيم الإثم، والفتك بالمجاهدين غيلة.. ولم تُحلِ الوقائع بين الفريقين عن مَعارك قُتل فيها من الباغين جماعة».     

  تَدخل خِلال مُواجهات هذه الجولة شيخ المخادر أحمد صالح الصبري، ومحمد عبدالواحد من مشايخ إب، وقاما بالتوسط بين الجانبين، وتمكنا - كما جاء في إحدى التقارير البريطانية - من إقناع الثوار برفع الحصار عن حاكم حُبيش القاضي عبدالله يونس، وقواته، والسماح لهم بمُغادرة ظَلْمَة؛ شريطة انسحاب القوات الإمامية من أطراف تلك الناحية، وأنْ لا تقوم بأي عمل عِدائي كرد فعل على الحادثة الأولى، وهذه الجزئية تجعلنا نجزم أنَّ هذه العملية تمت قبل هجوم القوات المُنقذة (قوات عبدالله حميدالدين)، وبتوصيف أدق قبل خرق تلك القوات لتلك الاتفاقية. 

         لم يتحدث أحد من المُؤرخين الإماميين عن تلك الوساطة، ولا عن نتائجها، في حين اكتفى المُؤرخ مطهر أثناء نقله لتفاصيل هذه الجولة بالقول: «وتيسر في أثناء تلك المُدة خروج القاضي عبدالله بن محمد يونس حاكم حُبيش ومن معه من بقية الجند الإمامي إلى إب ليلًا، بعد أنْ حاصرهم الباغون أشد الحصار في ظَلْمَة».        المُؤرخ مُطهر لم يعترف أيضًا بحادثة تَعرض القوات الإمامية المُنقذة للحصار، ولا بخسائرها البشرية والـمادية، في حيـن أكد المُؤرخ أحمد الوزير ذلك قائلًا: «لم أعد أتــذكر متى أرسل سيف الإسلام أحمد أخاه من إب، ولكن الثابت أنَّ السيد عبدالله بن قاسم كان قد وقع محصورًا فور وصوله إلى حُبيش، وأنَّ الإمام يحيى جهز حملة تعز لفك الحصار عنه فقط».  

     وبين الحصار الأول والحصار الأخير، ثمة جزئية مهمة أوردها المُؤرخ أحمد الوزير، تُشير اختزالًا إلى قيام الإمام يحيى بإرسال حملة ثالثة إلى حُبيش، أسماها بـ (حملة تعز)، وربما - والاحتمال هنا ضعيف - المقصود حملة عمه علي الوزير الآتي ذكرها، في حين لم يُشر المُؤرخ مطهر إلى ذلك، واكتفى بالحديث عن استمرار المُواجهات في تلك الناحية، ما يُؤكد قيام أحمد بن قاسم حميد الدين بإرسال تعزيزات عسكرية لإنقاذ أخيه (عبدالله)، وأضاف مُطهر: «والحرب مُستمر بين الفريقين، والمُخالفون يتلقون من ذوي التردد المعاونة الخفية، والتثبيت، والوعد بالمدد - إشارة إلى دعم مشايخ تعز وإب لتلك الانتفاضة - حتى أصروا على العناد، ودوام الفساد».       نقل المُتصرف يوسف بك حسن في مُذكراته جانبًا من تلك المُواجهات، وألمح هو الآخر لوجود حملة ثالثة، وقال في أحداث يوم 23 أبريل 1919م، تعليقًا على رسالة وصلته يومها، ما نصه: «وأنا أظن أنَّ ورود قوة.. إلى إب لأجل سوقها إلى حُبيش، حيث الأهالي هناك قاوموا الشرذمة الإمامية التي ساقها عليهم سيف الإسلام - يقصد أحمد بن قاسم حميد الدين - من إب، وأخذوا منها مدفعًا، ومَهمات أخرى، وفتكوا بها، والله أعلم ما سيكون بعد السكون».   

    إلى ذلك تحدث الجنرال البريطاني بيتي - القائم بأعمال المقيم السياسي بعدن - في تقريره الذي بعثه لوزير الخارجية الإنجليزي عن دعم أهالي إب والعدين، وغيرهم لثوار حُبيش، وذلك في لحظات انتفاضة الأخيرين الأولى، وأضاف - أي الجنرال بيتي - أنَّ الثوار قتلوا ما يزيد عن 60 جنديًا إماميًا، وأسروا سبعين آخرين، بينهم ضابط، وغنموا مدفعًا، ورشاشين.       وعلى ذكر دعم أهالي إب والعدين لثوار حبيش أثناء لحظات انتفاضتهم الأولى، أفاد الشيخ يحيى منصور بن نصر أنَّ والده أمد الشيخ محمد عايض العقاب بالمؤونة والذخيرة، في حين أشاد حفيد الأخير الشيخ مُراد أمين نعمان العقاب بدور مشايخ بيت الباشا (الجُماعي) في العدين بهذا الجانب، وقال نقلًا عن والده أنَّ أولئك المشايخ أمدوا جده بالذخائر، في حين تنكر معظم مشايخ المناطق الوسطى لالتزاماتهم.     

  من جهته غرَّد الباحث زيد بن علي الوزير خارج السرب، وقال أنَّ الإنجليز دعموا ثوار حُبيش ببعض الأسلحة، مُؤكدًا ثبوت ذلك في الوثائق البريطانية، دون أنْ يحدد مصدر روايته المُتخبطة تلك! وأضاف في موضعٍ آخر أنَّ انتفاضة حبيش «استهدفت إخراج الحضور الإمامي الرمزي المتبقي في قضاء إب من اليمن الأسفل كله». 

المعركة الفاصلة أمام تلك الانتكاسات المُتتالية، كلف الإمام يحيى الأمير علي الوزير - كما سبق أنْ ذكرنا - بإخماد تلك الانتفاضة، وكان خروج الأخير الأول إلى جحانة - أوائل مايو 1919م، وهناك كما قال ابن أخيه: «طلب من خولان كلها مُقاتلين، ليكونوا معه، فَخرج منهم الكثيرون، وفي مُقدمتهم الشيخ محمد الصوفي، ومشايخ كثيرون من بني جبر، منهم الشيخ البطل المجاهد الوفي عبدالله بن سعيد الجبري، والشيخ الفاضل عُباد المنصوري، ومن بيت أبو حليقة، وغيرهم».       لم يكن قَرار اختيار الذئب الأسود لـمُقاتلين من خولان اعتباطيًا؛ فمعروف أنَّ عدد من أبناء تلك القبيلة سكنوا خلال العقود السابقة في بعض قُرى حُبيش، ويستحيل تبعًا لذلك أنْ يُواجه هؤلاء بني عمومتهم، وباتحاد القادمين والساكنين حصلت - كما سيأتي - الانتكاسة، وكان المُستفيد الأكبر من ذلك الإماميين المُحتلين، الذين ديدنهم التحريش بين اليمنيين، واللعب على وتر العصبيات المذهبية والمناطقية المقيتة.     

  ومن جحانه توجه الأمير علي الوزير (الذئب الأسود) جنوبًا صوب زراجة، ثم ذمار، ثم يريم، ومن الأخيرة أرسل بأول رُسله إلى حُبيش، ثم واصل تقدمه إلى سمارة، وفي مُرتفعاتها السامقة انتظر وصول باقي القوات، ولم يُغادرها إلا بعد أنْ تَرك فيها فصيلة من الجيش، على أنْ تتركز مهمة تلك الفصيلة بالتصدي للعساكر الفارين، وعدم السماح لأي رجل مُسلح بالمرور إلا بتصريح من الأمير نفسه.     

  كثف الثوار في تلك الأثناء من استعداداتهم للمُواجهة، ورتبوا في سفح جبل حبيش مَتارسهم، وما أنْ وصل الأمير علي الوزير إلى ناحية المخادر المجاورة، والواقعة في شمال ذلك لجبل، حتى سارع بإرسال رسوله الثاني إلى قائدهم الشيخ محمد عايض العقاب، عَارضًا عليه الاستسلام، وإخلاء سبيل القوات الإمامية المُحاصرة، فما كان من الأخير إلا أنْ رد على ذلك الرسول بإعطائه أربع طلقات من الرصاص، وخاطبه بالقول: «هذا هو الجواب، سلمه لمن أرسلك».       تزامنت عودة ذلك الرسول مع وصول الأمير علي الوزير إلى سفح جبل حبيش، ليتفاجأ بهجوم مُباغت شنه الثوار، أجبروه على إعادة ترتيب قواته 17 مايو 1919م، مُقسمًا إياها على أساس قبلي، حيث جعل - كما أفاد المُؤرخ حمود الدولة - قبائل عيال يزيد في الميمنة، وقبائل أرحب وحاشد في الميسرة، وقبائل خولان ونهم في القلب، وتولى بنفسة قيادة الفرقة الأخيرة.   

    ومن مَركز ناحية المخادر تَحركت قُوات الميمنة جهة الجنوب الغربي، وتمثلت مهمتها في السيطرة على مناطق جبل حُبيش الشمالية، فيما تحركت قوات الميسرة والقلب جهة الجنوب الشرقي، وتمثلت مهمتهما في السيطرة على جنوب ووسط ذلك الجبل العتيد، ومن قرية الزبيدي التابعة للمخادر، والواقعة في سفح جبل حبيش، قام الأمير علي الوزير بإرسال أحمد بن صالح الصبري إلى الثوار، إلا أنَّ وساطة ذلك الشيخ فشلت، وعاد أدراجه خائبًا، والشيخ المذكور كان من المُوالين للإمامة، وسبق أنْ عينه الذئب الأسود فور وصوله المخادر عاملًا لتلك الناحية، وشارك ومجاميع من قبيلته في هذه الحملة.   

    قامت القوات الإمامية بعد ذلك بهجوم شامل، ومن ثلاثة محاور، وقد واصلت قوات الميمنة تقدمها إلى عزلة الناحية، والأخيرة تقع بين عٌزلتي ظَلْمَة وقحزة حبيش، وتمكنت من الاستيلاء عليها، وعلى جميع حصونها، وصولًا إلى حصن شافة، وذلك بعد معارك شرسة برزت فيها بطولات الشيخ عبدالعزيز بن عبدالكريم الحداد، شريك الشيخ العقاب في قيادة تلك الانتفاضة، وقد قَاتل ذلك القائد الفذ حتى آخر طلقة، وقتل من على شرفة داره العتيق، الرابض في القُرب من ذلك الحصن حوالي 60 عسكريًا إماميًا، وكانت نهايته قتيلًا تحت أنقاض تلك الدار، وبعد أنْ عمد الإماميون على حرقها، وهدمها، وتركها قاعًا صفصفًا.       وفي الجانب الآخر، تجاوزت قوات الميسرة قرية الزبيدي وصولًا إلى قرية الغُراب التابعة لعُزلة جبل معود، من ناحية ريف إب، ومن الأخيرة أكملت مسيرها وسيطرت على مناطق جبل حبيش الجنوبية، وقد أوجز المُؤرخ أحمد الوزير مَعارك هاذين المحورين بقوله: «وبالنسبة للميمنة والميسرة فقد استمر القتال ليلًا من شمال الجبل وجنوبه، حتى استكملوا السيطرة على الجبل».   

    أما المحور الأوسط (القلب)، والذي قاده الأمير علي الوزير بنفسه، فقد اضطلع بالدور الرئيسي في تلك الجولة، وتجاوز قرية الزبيدي صعودًا إلى عُزلة المشيرق، وقد دارت فيها - كما أفاد المُؤرخ مُطهر - أشرس المُواجهات، وأضاف ذات المُؤرخ: «وكان يومًا مهولًا، أظهر فيه المجاهدون من الشجاعة والإقدام ما بَهَرَ العقول، ولم يمض اليوم حتى انهزم الباغون، لا يلوون على شيء، وتقدم المجاهدون في عُزل حبيش إلى أنْ وصلوا إلى ظَلْمَة».     

 أما المُؤرخ حمود الدولة، الذي كان مُرافقًا للذئب الأسود في تلك الحملة، فقد أنهكنا بإطنابه وسجعه، وتجاوزه لكثير من الأحداث المُهمة، وأوجز تلك المعركة بقوله: «وكانوا - يقصد الثوار - قد استحكموا على الطرق بإتقان ترتيب الأدراك، وانتخبوا من أهل الجرأة من لا يتزلزل عن مستقر نُزله، وإن أشفى على مدارك الهلاك.. ودامت المعركة مسبلة ذيول ليلها، مُتكاثفة ركام سبلها وهولها، في يوم مشهود، وزمجرت ليوث كالرعود، وأصوات متصل المدافع والبنادق، تحسبها لصولتها أمهات الصواعق».   

    من جهته أرجع المُؤرخ أحمد الوزير ذلك النصر لعمه الأمير، مُخالفًا غيرة بالإشادة بالثوار، حيث قال: «والتحم الجيش مع المتمردين الشجعان، الذين سرعان ما انهزموا أمام الجيش الباسل، الذي لم يهب الموت، والذي لا يزال في كرٍّ وإقدام، مواليًا انتصاراته، واستمر القتال، واستمر النصر، ابتداءً من صباح ذلك اليوم إلى أثناء الليل، عندما اقتحم الأمير بنفسه وبقواته مركز ظَلْمَة، قاعدة الجبل الأشم، وسيطر عليه».       وعن أحوال القوات الإمامية المُحاصَرة في تلك المنطقة، قال ذات المُؤرخ: «وكان الأمير هو أول من وصل إلى المُحاصَرين في دار الحكومة، وعلى رأسهم العلامة عبدالله بن قاسم، شقيق سيف الإسلام أحمد بن قاسم، فأطلق سراحهم بنفسه، واحتل مواقع المُتمردين بعد أنْ أجلى العقاب إلى ثلاثة دور خلف دار الحكومة، وتحاصر فيها».   

    صمد الشيخ العقاب في تلك الدور المُشرفة لمدة ثلاثة أيام، وفَرض حصارًا جزئيًا على الأمير علي الوزير؛ الأمر الذي أنهك الأخير وقواته، خاصة وأنَّ ما يصلهم من الطعام كان قليلًا جدًا، وعن ذلك قال المـُؤرخ مُطهر: «استغنى المجاهدون بما وصل إليهم من ذلك - يقصد الطعام - فانتظم أمرهم، وكان ذلك من العناية الإلهية بالجند الإمامي، وبركة من بركات مولانا الإمام، التي ما زالت عن طور التجلي للأعين في كل واقعة ومعركة، فكم سرد الواضعون أفرادها، وأطال المشاهدون تعدادها، حتى أنك لا ترى جنديًا أو أميرًا إلا وهو يقول: لولا سعادة مولانا الإمام وبركاته، لما تم شيء من الظفر، ولا حصل من النصر ما يذكر»! 

      وكما كان وصول الطعام إلى القوات الإمامية مُكلفًا، كان قضاء الحاجة مُكلفًا أيضًا، وكان الأمير علي الوزير - كما أفاد ابن أخيه - يَحصر نفسه من الفجر إلى العِشاء؛ لأنَّ دورة مياه دار الحكومة واقعة في السطح، وكان ذلك السطح مُواجهًا للدور الثلاثة التي تحصن بها الثوار، ويقع أسفلها. 

      وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله المُؤرخ أحمد الوزير: «واستمرت المناوشة بينهم وبين الجيش طيلة تلك الفترة، ولم يتمكن بعض رجال الجيش الذين هاجموهم من الاستيلاء على تلك الأماكن، فدعا الأمير الشيخ محمد عبدالله الصوفي، وألزمه بفتح تلك الدور المحصنة والمبنية بالحجارة، فاستدعى الصوفي أصحابه، فتلكؤوا بادئ الأمر، فصاح فيهم، وكشف مُؤخرته، كعادة القبائل لاستثارة أصحابهم، وكر وحده مُنفردًا، فتبعه رجال خولان كلهم، ففتح الله على أيديهم ما كاد يستعصي».       وعلى خلاف مُؤرخي الإمامة الذين وثقوا لأحداث تلك الانتفاضة، كـ مُطهر، والدولة، وزبارة، اعترف ذات المُؤرخ بوجود ضحايا في الجانب الإمامي، وقال مُهونًا: «وقد كانت الخسائر بين المُتمردين كبيرة، كما كان بين جيش الأمير من الإصابات ما يقارب خسائر المُتمردين».    

   وفي ذات السياق الملحمي، تفيد الذاكرة الشفهية أنَّ معركة معيط، وهي قرية قريبة من مركز الناحية (ظَلمة)، كانت آخر المعارك الفاصلة بين القوات الإمامية والثوار، لجأ الأخيرون خلالها، وبعد أنْ نفدت ذخائرئهم، إلى استعمال السلاح الأبيض؛ الأمر الذي أدي لاندحارهم، ومن ثم هزيمتهم.

تدمير مُمنهج ثمة مثل شعبي دارج يقول: «ما تكسر الحجر إلا أختها»، وهو ما عمل عليه الأمير علي الوزير حين استعصت عليه حُبيش، وبمعنى أصح باقي مناطق حُبيش، استعان - كما أفاد المؤرخ مُطهر - بالشيخين حمود عبدالرب ومحمد عبدالوهاب محمد، اللذين وقفا بعد أنْ مَالت الكفة لصالح الإماميين ضد الشيخ العقاب، وتنكرا للجوار، وللعيش والملح، وساهما وبعض رعيتهما في إذلال الثوار، وقد كانت لهما مهمة احتلال عزلة نقيل العقاب، المجاورة للعدين، والتضييق على سُكانها، والاستيلاء على منزل الثائر محمد عايض، وقد كوفئ الشيخ حمود بأنْ ولي عمالة العدين، فيما كانت عمالة حُبيش من نصيب الآخر.       إلى ذلك أشارت إحدى الوثائق البريطانية، نقلًا عن الشيخ محمد مقبل الصراري، أنَّ القوات الإمامية في حُبيش لاقت مُقاومة قوية، إلا أنَّ خيانة الشيخ حمود عبدالرب، وتسليمة تلك القوات بعض الحصون التي كان يملكها، أدت إلى هزيمة الثوار.  

     وتعقيبًا على الروايتين السابق ذكرهما، قال الدكتور نبيل عبدالرب - حفيد الشيخ حمود عبدالرب - إنَّ انتفاضة حبيش على أهميتها لم تكن أخذت تنسيقا مُنظمًا مع بقية مشايخ إب وتعز، وإنْ اعتبرها الجميع خط الدفاع الأول لاستقلال المناطق الوسطى، وأضاف مُدافعًا عن جدة: «ما حدث لم يكن خيانة؛ فالتجاور والتداخل الجغرافي والقبلي بين مناطق العدين وحُبيش، وخصوصًا الواقعة تحت نفوذ الشيخين حمود عبدالرب سنان والعقاب، بما فيها بني عواض، والوادي، وحرد، جعلت من الأخيرة عمقًا ومركز إمداد لانتفاضة حُبيش، إلا أنَّ تحول الموقف عسكريًا في مُرتفعات حُبيش المُـطلة على مناطق حمود عبدالرب أدت به إلى التراجع عن دعمه للثوار».  

     إلى ذلك، وبالتزامن مع المُواجهات الأخيرة في حُبيش، عقد مشايخ تعز وإب مُؤتمرًا في مدينة القاعدة، وقد جاءت إشارة المُؤرخ مطهر إليه عابرة، وقال أنَّه لم ينتظم لأولئك المشايخ أمرٌ ينافي المصالح الإمامية، وأشارت في المُقابل وثيقة بريطانية إلى نجاح ذلك المؤتمر، وأنَّ المُجتمعين اختاروا الشيخ محمد ناصر مُقبل رئيسًا لهم؛ لما يمتلكه من أسلحة تركية تُمكنه من مُقاومة الزحف الإمامي.    

   ولو تتبعنا سُلوكيات أولئك المشايخ حينها، لوجدنا أنَّ رواية المُؤرخ مطهر هي الأقرب للحقيقة، وهي الرواية التي أكدها المُؤرخ محمد بن علي الأكوع بقوله: «ومن جهة أخرى خذلهم - أي ثوار حُبيش - مَشايخ اللواء، فلم يواصلوا إمداداتهم من رجال، وعتاد، ومعونة، ولا شيئًا مما تعهدوا به، كما هي طبيعة فيهم».       كما كانت للخولانيين الساكنين منذ عقود في ناحية حُبيش النصيب الأكبر في تلك الانتكاسة، وهي حقيقة لم يذكرها المُؤرخان عبدالكريم مُطهر، وأحمد الوزير، وأكدها المُؤرخ محمد الأكوع بقوله: «وكادت تحل الهزيمة بالوزير؛ لولا إمدادات سريعة جاءت من صنعاء، وحصول خيانة من الخولانيين الساكنين جبل حبيش، فافتعلوا هزيمة مُصطنعة كما هي عادتهم».   

    أدت تلك الانتكاسات إلى انكسار الثوار، وهزيمتهم، وهروب قائدهم، وذلك في أواخر مايو من العام 1919م، وبعد خمسة أشهر من المقاومة، وقيل شهرين، والقول الأخير هو الأرجح، استبيحت بعدها بلادهم، وعاث فيها الإماميون قتلًا، ونهبًا، وخرابًا، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وتم للمجاهدين اجتياز ما مسافته نحو أربع ساعات فلكية من البلاد المخالفة، وقتل منهم كثيرون، وأسر أيضًا منهم جماعة، وأخذت رؤوس بعض القتلى، وفرَّ الباغي محمد عايض العقاب». 

       ثم يمضي المُؤرخ عبدالكريم مُطهر في نقلة لتلك الجرائم المُروعة، مَزهوًا بانتصار الإماميين، وبما أخذوه من غنائم، إلى أنْ قال: «وغنم المجاهدون منهم غنائم واسعة، وكانت وقعة عظمى، أذهبت أحلام المترددين، وشفت قلب الدين، وقرت بها عيون المؤمنين، وأيقظت ذوي الغفلة من رقدة تقاعدهم عن الموالاة الصادقة، واهتز لها اليمن الأسفل من جميع جهاته»!       أما المُؤرخ حمود الدولة، فقد تعمق هو الآخر حول هذه الجزئية، وبالغ واستطرد، وتشفى وتلذذ، وقال مُتباهيًا: «غنموا - أي الإماميين - فيها جواهر الأموال، وأسروا فيها صناديد الرجال، وأما القتلى والغنائم فلا يوجد لها وصف ولا حصر، ولا يوقف على قدر».  

     عمد الأمير علي الوزير بعد إخماده لتلك الانتفاضة إلى أخذ رهائن الطاعة، وحرق وتخريب حصون ومنازل الثوار، كحصن عيال إبراهيم، وداري الجأبيب وعميقة التابعين للشيخ العقاب، ودار الشيخ الحداد، وغيرها الكثير، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وتقدم المجاهدون.. وأحرقوا أكثر الدور، وانتهبوها».       مكث الأمير علي الوزير في ظَلْمَة مُدة، وإليه وفد عدد من مشايخ تعز وإب، وقد «أظهروا الانقياد والندم على ما كان يبدر منهم من الميل إلى العناد»، حسب توصيف المُؤرخ مُطهر، أما أهالي إب فقد انفردوا - كما أشار ذات المُؤرخ - بـ «الثبات على الموالاة، وإعانة المُجاهدين السابقين والتالين بالكفايات من الطعام وغيره».  

     وإلى الأمير علي الوزير أرسل الشاعر الشيخ محمد منصور بن نصر بقصيدة طويلة، هنأه فيها بذلك النصر، اقتطفنا منها: أضــحت حُبيش بالحصون كأنها أثـــــرًا إذًا بعد العيــان تـُــــنــادِ أين الحصون الشامخات وأهلها أيــــن العُقـــاب ومنــزل الحدادِ تبًا لـرأيهم المصـــاب لقد سعوا لهـــــلاكهم سعيًا على الأخداد       وعن تلك الانتفاضة وغيرها، كتب المُؤرخ عبدالكريم مُطهر قصيدة طويلة، ومنها نقتطف: وسـل عـن حُبيـش حـين زاغ عُقابـــه فمـــــــالت عليــــه بالدمار صقــــور وطار بمن سـاواه في البغــــي هائمًا وما ضمـــه بعــــد البــوار ذكــــور دعى قومه مــــــــن حُمــقه لغــواية فقالــــوا أطعــنا والـــدبــور حبــور فبـاءوا بــإثم البغي بعــد نـدامــــــة وهبت عليهم بالـــــــــهـلاك دبــــور

مُشاركة فاعلة  قَاتل الشيخ الشاب محمد عايض العقاب قتال الأبطال، وأبلى بلاءً حسنًا، وأشاد ببطولته الأعداء قبل الأصدقاء، وحين أدركته الهزيمة؛ يمم خُطاه صوب جبل راس، وهناك ترك - حسب شهادة حفيده الشيخ عبدالواحد عبدالجليل محمد عايض - أهله في ضيافة أصدقاء له من بيت المأمون، ثم أكمل بعد ذلك مسيره صوب مدينة صبيا، مُستنجدًا بحاكمها محمد بن علي الإدريسي، وحين لم يجبه الأخير، يمم خُطاه صوب مدينة جدة، مُستنجدًا هذه المرة بالشريف حسين، ولكن دون جدوى.   

    الشيخ عبدالواحد قال نقلًا عن والده أنَّ جده عاد بعد رحلته القصيرة تلك إلى جبل راس، وبدأ من هناك بمراسلة الأمير علي الوزير طالبًا المُصالحة، وأنَّ الوفاق تم بالفعل بين الجانبين، ولكن بعد أنْ وافق الإمام يحيى على شرطين اشترطهما، نص الشرط الأول على عودة الشيخ العقاب إلى بلدته بأمان، ونص الشرط الآخر على تعويضه التعويض العادل، وإعادة بناء داريه اللذان قام الإماميون بهدمهما. 

      عاد الشيخ العقاب بعد ذلك إلى مَسقط رأسه، وفي العام 1925م تقريبًا كانت وفاته، وبتوصيف أدق - وحسب شهادة حفيده عبدالواحد - استشهاده، فقد عمد أعداؤه (لم يحدد من هم، فيما أصابع الاتهام تشير إلى الإماميين) على تسميمه مرتين، فشلوا في الأولى، ونجحوا في الأخرى، وحين حاول المقربون منه أثناء المحاولة الأخيرة انقاذه، كما فعلوا قبل أربع سنوات أثناء المحاولة الأولى، وذلك بتفتيتهم جانبًا من الذهب الموجود في رأس جنبيته، ومَزجه بالحليب، منعهم من ذلك، وخاطبهم بلكنته الدراجة: «وجبه»، ليلفظ بعد ذلك أنفاسه الأخيرة، وهو لم يتجاوز الـ 40 عامًا من عمره.    

   وأضاف الشيخ عبدالواحد أنَّ تعويضات الإمام يحيى، والتي قدرت بـ 3,000 ريـال فرنصي، وصلت بعد وفاة جده، وأنَّ عمه الكبير الشيخ مصلح محمد عايض قام باستلامها، وأعاد بها بناء داري الجبأبيب وعميقة، وعلى نمطهما القديم.                  لم يقد الشيخ العقاب تلك الانتفاضة بنفسه؛ بل شاركه فيها عدد من أعيان ووجهاء منطقته، وكان الشيخان عبدالعزيز الحداد، ومحمد بن حفظ الله الزوم من أشهر من ساندوه، وقد رفع الأخير راية استسلامه؛ وذلك بعد أنْ أحدق به عساكر علي الوزير في منزله الكائن في ربع ظَلْمَة، ونازلوه مُنازلة شديدة.   

    أما الشيخ الحداد، فسبق أنْ تحدثنا عن بُطولته المائزة، التي رسم فُصولها في إطار عُزلة الناحية، وهي البطولة التي أدت لاستشهاده، وصارت محط فخر واعتزاز أبناء جبل حُبيش قاطبة، وعنه قالوا في أمثالهم: «حداد الحروب، وحداد الرؤوس».       وقد أشاد الشيخ مُراد أمين نعمان بدور الشيخين المذكورين في مُساندة جده، وقال أنَّ بينهما وأسرته مُصاهرة، وأنَّ خطباء المساجد في المناطق الوسطى كان يلهجون أثناء تلك الانتفاضة بهذا الدعاء: «وارض الله عن المقداد بن المقداد، الشيخ الحداد، وارض الله عن زعيم القوم، الشيخ محمد حفظ الله الزوم، وارض الله عمن خضعت له الرقاب، الشيخ محمد عايض العقاب».  

     ولد الشيخ العقاب يتيمًا، وعاش السنوات الـ 16 الأولى من عُمره عند أخواله من بيت سعد الدين العقاب، وما أنْ انبلج فجر شبابه، حتى عاد - كما أفاد حفيده الشيخ مُراد - للإقامة في دار الجأبيب، الدار التي أبصر فيها النور لأول مرة، والذي كان آية في الروعة والمنعة.       أورد المُتصرف يوسف بك حسن اسم الشيخ العقاب أثناء حديثه عن تحشيد الأتراك لأبناء المناطق الوسطى للتوجه إلى لحج لقتال الإنجليز، تحت راية اللواء على سعيد باشا، وقال في نقله لأحداث يوم السبت 23 مايو 1915م مٌشيدًا به: «وصل مدير حُبيش ومقدمهم الحاج محمد عقاب، وهو أسمى رجل في النفس، وعلو المدارك، وقد سبقت له مُرابطة هذه السنة في باب المندب، فهذه أول قافلة أتت من المجاهدين».   

    يوسف بك كان يشغل حينها منصب قائم مقام العدين، وقد رافق مقاتلي ذلك القضاء إلى لحج، وجاء في نقله لأحداث يوم الاثنين 15 يونيو 1915م ما نصه: «ورغمًا من حيلولة الليل سرنا بفرح ونشاط حتى أتينا السياني، وكان معي من رؤساء العشائر الشيخ حمود عبدالرب، والحاج محمد عقاب، والشيخ عبدالله علي باشا، والشيخ حسن الحميدي، والشيخ حمود بن أحمد ملهي الشهاري».        نعت المُتصرف يوسف بك للشيخ العقاب بـ (الحاج) يعود إلى أصلًا إلى صلاحه، وتدينه الفطري، وهي حقيقة أكدها المُؤرخ محمد الأكوع، وأكدها أيضًا الشيخ مُراد العقاب، وأفاد الأخير أنَّ جده تأثر بالفكر الصوفي السائد حينها، وأنَّ أبناء المنطقة بدأوا لذات السبب بالتوافد إليه، وارتضوه مُصلحًا لأحوالهم، وحكمًا لقضاياهم، وأنَّه لشدة زُهده وتقشفه قال عنه الإمام يحيى حين التقاه لأول مرة: «هذا إذا حكم اليمن سيُلبس اليمنيين الحصير».       وعلى ذكر الإمام يحيى، فقد أفاد الشيخ مُراد أنَّ ذلك الإمام عمل بعد إخماد ذئبه الأسود لانتفاضة حُبيش على التقرب من بيت العقاب، وزوج ابنه الأكبر السيف أحمد بفتاة من ذات الأسرة، وأنَّ الثوار أحسنوا بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م لتلك المرأة العُقابية، وحددوا لها راتبًا شهريًا كان يصل إليها مُباشرة من دار الرئاسة.    

سنة الحدا وبالعودة إلى ذكر تاريخ حُبيش البطولي، فقد ساندت فيما بعد شيخ العدين علي محسن باشا في انتفاضته ضد حكم الإمام أحمد يحيى حميد الدين، الذي تولى الحكم بعد مقتل والده، وكان الشيخ المذكور قد قام بتجميع قوات كثيرة منها، ومن العدين، وبعدان، وجبل صبر؛ لغرض الدفاع عن صنعاء، إلا أنَّ سقوط الأخيرة حال دون ذلك 13 مارس 1948م، فما كان منه إلا أنْ عاد من مدينة إب أدراجه، وقاوم في بلدته (العدين) ولأكثر من شهر القوات الإمامية المُتفيدة.       أباح الإمام أحمد مناطق العدين وحُبيش للقبائل، ورغم أنَّ بينه وبين أحدى أسر الأخيرة (بيت العقاب) مُصاهرة، كلف قبائل الحدا باستباحتها، وقال مُمنيًا أنصاره:     ألا يا أهل الحدا يا أهل آنس عَــشاكم البــلاد المُــفسدات      

 بعدان هي الأخرى، وبالأخص عُزلة الدعيس (العُزلة)، تعرضت لذات الانتكاسة؛ والسبب انتماء الشيخ حسن محمد الدعيس أحد ثوار 1948م لها، ولوقوع المركز الحكومي فيها، وقد خلدت إحدى المُلالات الشعبية ذلك:   مسكيــــنة العزلة فاخربوها وادوا سليط الجاز واحرقوها       ومن يومها صارت سنة الحدا، أو (البرشوت) كما هي تسميتها الدارجة، صارت - كما أفاد الباحث عادل الأحمدي - معلمًا زمنيًا يستدل به الآباء على أعمار أبنائهم، وعلى وحشية الإمام، كاشفًا أنَّ تلك السياسة الرعناء سلبت العدين وحبيش زخرفها، وزرعت البغضاء بين أبناء الشعب الواحد، لتعود تلك القبائل بخفي حنين، على أثر صيحة أخرى لذات الإمام، قال فيها: يا حـــدا يـــــا خيــــرة الله عليكم حــق بيـــت المـال كــلا يـــــرده بـارق أحمد بايجيـــش عليــــــكم جيش لا يُحصى ولا حـد يعــده  

     إنَّها حبيش، حضارة الرفض، وحاضرة الذرة الأشهاد، والأنداء، وسطوة الأولياء، وشيء من سدر قليل.. هكذا قال الباحث الأحمدي ذات استطلاع عن بلدته (حُبيش)، موضحًا أنَّ الرفض ارتسم على مخيلة ربوعها، وسطر صفحات مُجللة بالإباء، ابتداءً من ثورة الفقيه سعيد بن ياسين، وحتى حملة الأمير علي الوزير، وسنة الحدا، وصولًا إلى أحداث الجبهة الدموية، وللقصة بقية.

نقلًا عن صحيفة (26 سبتمبر)

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان