كنت في مأرب
الساعة 07:49 صباحاً

قد يبدو الأمر مستغرباً أن يتحدث مواطن بفرح عن زيارة يقدرها بعضهم بأنها استثنائية إلى أي جزء من بلاده، وهذه إحدى مفارقات الحرب التي تعصف باليمن واليمنيين منذ بدايات الصراع المسلح الدامي. وواقع الحال أن الاستثناء الوحيد في الزيارة مرتبط بصعوبة الوصول إلى النقطة المبتغاة، وحين تكون مأرب هي المقصد يصبح الأمر أكثر مدعاة لطرح الأسئلة والتعجب، ولم يكن هذا هدفي من القيام بهذه الرحلة.

قبل أشهر التقيت في الرياض بالشيخ الصديق سلطان بن علي العرادة، عضو مجلس القيادة الرئاسي ومحافظ مأرب، وفي أثناء الحديث سألني عن آخر زيارة قمت بها إلى مأرب. أخبرته أنها كانت في عام 1999 حين رافقت الراحل عبدالكريم الإرياني، رئيس الحكومة حينها، في زيارته إليها ثم إلى سيئون وفي اليوم التالي بالطائرة إلى سقطرى ثم في اليوم نفسه إلى صنعاء. بالطبع فإن القيام بهذه الرحلة اليوم هو ضرب من الخيال فقد تقطعت أوصال البلاد، ولم يعد ممكناً التنقل بين رقعها الجغرافية إلا بمشقة وتحت خطر أن يصيبك قناص أو تمر بسيارتك فوق لغم أو تقصفك طائرة مسيرة أو تتعرض لنيران صديقة.

في ذلك اللقاء مع الشيخ العرادة قلت له إن المناسب القيام بالزيارة عندما تنخفض درجة الحرارة واقترحت شهر سبتمبر (أيلول). بعد أسابيع عدة من ذلك اللقاء، تواصل معي الصديق الدكتور علي الجبل أحد كبار مساعدي الرجل، وقال إن الشيخ العرادة ينتظر قدومي لحضور احتفالات الذكرى الـ60 للثورة اليمنية في 26 سبتمبر. حزمت أمري وسافرت بالطائرة من جدة إلى سيئون، وبت الليلة ثم توجهت إلى مأرب مع المرافقين الذين أرسلهم الشيخ العرادة لاستقبالي.

كانت لهفة الوصول إلى مأرب بعد 23 سنة من آخر زيارة لها، مخففة لمعاناة الطريق الذي لم يتغير طوله عما كان في عام 1999 لكنه صار يستغرق أضعاف الفترة الزمنية (كانت حوالى أربع أو خمس ساعات واليوم أصبحت ثماني أو 10 ساعات)، وصار المرور عليه مجازفة كبيرة بعد أن أصبح الطريق الوحيد الذي تستخدمه الكتلة السكانية التي تعيش في مأرب التي تضاعف عدد السكان فيها من حوالى 100 ألف نسمة إلى ما يزيد على مليونين نزحوا من مناطق الحرب التي تحيط بالمدينة، ويسكنون الخيام التي أقامتها السلطة المحلية والمنظمات الدولية، كما وفد إليها كثيرون ممن وجدوا فيها مناخاً آمناً للعمل الحر والإقامة.

حين اقتربنا من المدينة كان مؤلماً مشاهدة خيام متناثرة بعيدة من الطريق العام، يأوي إليها مئات الآلاف من النازحين، ثم أتت المفاجأة السارة متمثلة في ازدحام مدينة مأرب وازدهار العمران فيها وشق طرقات كثيرة تخفف من الضغط على وسطها. وفي المقابل أدى ارتفاع عدد السكان إلى رقم لا يمكن أن تتحمله منظومة الخدمات البسيطة أصلاً، فصارت منهكة بطبيعة الحال وهي التي لم تكن جاهزة لمواجهة الزحف المفاجئ لكتلة بشرية ضخمة لجأت إليها طلباً للأمان وربما العمل لتأمين الرزق إن وجدت فرصة.

على رغم الأخطار التي تعرضت لها محافظة مأرب وتمكنت من الدفاع عن منطقة المجمع التي تمثل قلب عاصمتها، إلا أن السلطة المحلية بقيادة الشيخ العرادة تمكنت من التركيز على توفير الكهرباء والماء بأسعار شبه مجانية في كل مناطقها وأنشأت جامعة إقليم سبأ لتستوعب حتى الآن ما يزيد على ثمانية آلاف طالب وطالبة. ويتم حالياً بناء صرح جامعي ضخم خارج مناطق الزحام الحالية. وامتلأت المدينة بالمحال التجارية والمطاعم والمقاهي وتقوم حملة مكثفة للتشجير وتحسين الطرقات الداخلية.

تجولت في أحياء كثيرة قديمة وحديثة، ولا بد أن أعبر عن قلقي من عشوائية التخطيط فيها، وهو ما سيحمل السلطة المحلية أعباء لن تتمكن من التعامل معها إذا لم تسارع إلى وضع مخطط متكامل لها، وإنشاء مناطق تقوم بمهمات محددة. كما أن الخدمات التي تقدمها السلطة المحلية مجاناً للسكان كافة ربما كانت مسألة إنسانية لكن استمرارها يجب أن يكون مقيداً ولفترة محددة يجب ألا تتجاوز الأشهر.

جلست أكثر من مرة مع الشيخ العرادة واستشفيت منه الحرص على وقف الحرب في أسرع الأوقات حتى يتفرغ الناس للتنمية والبحث عن تحسين أحوالهم المعيشية، ولمست رغبته في إيجاد حل سريع ليتفرغ الناس إلى ترتيب أوضاعهم والعودة لقراهم ونشاطاتهم التي سبقت الحرب. وفي المقابل وعلى رغم الحصار الذي يفرضه الحوثيون على المدينة فإن الحياة اليومية تدور بشكل يبدو طبيعياً، وفي الوقت ذاته فإن الجيش ما زال في حال تأهب للدفاع عن المدينة إذا ما فشلت مساعي تمديد الهدنة.

تقف مأرب واليمن معها في انتظار اتفاق تضع الحرب معه أوزارها، ويتمنى المواطنون الذين يعانون يومياً هذه الحرب أن تحدث التنازلات الكبرى التي تسهم في الخروج من المأزق الحالي وفتح الطريق المسدود، وأكرر هنا أن جماعة "أنصار الله" الحوثية مطالبة بالتوقف عن المطالبات التي تحولت إلى شروط يمكن البحث فيها من خلال الجلوس إلى طاولة يمنية – يمنية، ولعلهم يدركون أن وضع الشروط التي يرونها "مشروعة وطبيعية" هي في نظر الأخرين غير مقبولة. كما أن رفع نبرة التهديدات ضد أخوة لهم في الوطن يزيد من الأحقاد ويرفع منسوب الكراهية التي تمثل الفاجعة الحقيقية التي يحصدها اليمنيون كل صباح.

لقد مثلت زيارتي إلى مأرب تجربة سأكررها للاقتراب من الواقع المعاش الذي غاب عنه المسؤولون، وليتهم يتخذون منها مركزاً لنشاطهم إلى جانب عدن، وما لم يفعلوا ذلك فإنهم سيجبرون المواطنين على الابتعاد عنهم بمشاعرهم وتتقلص ثقتهم فيهم ويزداد إحباطهم ويأسهم منهم.
 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان