الزبيري والمغامرة غير المحسوبة
الساعة 11:35 صباحاً


رغم كل الخلافات المـُـتجذرة، والتناقضات الصارخة، قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م، وتصدر الضباط الأحرار المدعومون من مصر العروبة - مصر الزعيم جمال عبدالناصر المشهد، وتحقق على يد هؤلاء الأبطال «البزغة» - كما كان يحلوا للإماميين أنْ يسمونهم، تحقق وعد القائد العراقي الرئيس الشهيد جمال جميل الذي قال قبل 14 عامًا من ذلك التاريخ في وجه قاتليه: «حَبّلناها وستلد». 
     
وُلدت ثورة سبتمبر بعد مخاضات عسيرة، وأحداث كبيرة، وكانت بحق أعظم إنجاز في تاريخ اليمن القديم، والحديث، والمعاصر، ولولاها ما كان لمسار حياتنا المـُـتحجر المـُـنغلق أنْ يتغير نحو مزيد من التحرر، والتحول، والانطلاق.
     
هي تاريخ مُشبع بروح المقاومة الوطنية، في سبيلها قُدمت التضحيات تلو التضحيات، وبها انقشع ظلام الإمامة، وسلبنا الدُجى فجرنا المـُختبي، وسبقنا - كما قال الشاعر عبدالله البردوني - الربيع، نُبشر بالموسم الطيب.

في حكومة الثورة السبتمبرية الأولى عُين القاضي محمد محمود الزبيري بمنصبه السابق في حكومة 1948م الدستورية وزيرًا للمعارف، وعين ايضًا نائبًا لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الإعلام والتربية، ومن مقر إقامته في القاهرة رفض ذلك المنصب، ورفض أيضًا أنْ يعود إلى الداخل؛ لسببين رئيسيين هما: أنَّ اسم الأستاذ أحمد محمد نعمان لم يكن ضمن أعضاء تلك الحكومة، ولم يكن أيضًا ضمن قائمة اليمنيين المسموح لهم بالعودة، إلا أنَّ رفيق دربه تدخل وأقنعه بالعدول عن قراره؛ لأنَّ وجوده في الدخل، وفي ظل هكذا ظرف حرج أمرٌ في غاية الأهمية.
     
وهكذا عاد القاضي الزبيري إلى الوطن، عاد ليعيش فرحة ذلك الإنجاز العظيم، ويجني ثمرة نضاله الكبير، ويتجاوز جميع التناقضات، ويستنهض الذاتية اليمنية، وكلف لذات المهمة طلاب المدارس بالانتشار بين القبائل المجاورة للعاصمة صنعاء، وتوعية أبنائها، وحثهم على التضامن مع النظام الجمهوري الذي فيه خلاصهم، وفيه حياتهم، وفيه مُستقبلهم، ويُمثل قبل هذا وذاك كرامتهم، إلا أنّ تلك الحملات التوعوية توقفت للأسف الشديد مٌبكرًا؛ بسبب الحاجة لمن يحمل السلاح دفاعًا عن اليمن الجديد.
     
كمرجعية صادقة، وأب للجميع، عمل القاضي الزبيري أيضًا على تقريب وجهات نظر القوى الجمهورية المـُـتصارعة، وقدم نصائحه الصادقة للثُوار المـُـتحمسين، وقام بكبح جماح شهوة التسلط، ولذة الانتقام عند بعضهم، وحاول جاهدًا ومعه عدد كبير من الأحرار المـُـخلصين أنْ يقودوا سفينة الجمهورية الوليدة إلى بر الأمان.

وما يجدر ذكره أنَّ الأستاذ النعمان كان قد عاد إلى اليمن في الشهر الثاني للثورة السبتمبرية، وبطلب من المصريين أنفسهم، إلا أنَّ بقائه فيها لم يدم سوى 14 يومًا فقط؛ حيث تم تعيينه حينها مندوبًا في الجامعة العربية، أو «منذوقًا» كما قال في مذكراته! ليعود مرة أخرى إلى الوطن إبريل 1964م، وكانت مُساهمته هذه المرة فاعلة في تأسيس مجلس الشورى، وعين رئيسًا له.
     
بعد أشهر معدودة من تلك العودة، وقبل أنْ ينتهي ذلك العام، وجد الأستاذ النعمان، ورفيق دربه القاضي الزبيري، وعدد من الوزراء والمسؤولين الذين كان معظمهم من الأحرار الأوائل، وجدوا أنفسهم لا يتفقون مع القيادة الجمهورية الجديدة في نظرتها لسير الأمور، وقيادة الحرب، والسعي لتحقيق السلام، وكبح التدخلات الخارجية، وقدموا تبعًا لذلك استقالتهم، وتفرقوا في المناطق اليمنية.
     
قام القاضي الزبيري بداية العام التالي بمخاطرة كبيرة ناتجة - كما أفاد الدكتور علي محمد زيد - عن قناعة راسخة لديه بأنَّ الجمهورية والسلام لن يتحققا إلا بكسب القبائل المـُـحاربة إلى صفهما، وأنَّ البقاء في المدن، والاكتفاء بالعمل في أوساط السكان المـُـؤيدين للجمهورية لن يكفي لتحقيق الانتصار، وسانده في موقفه ذاك عدد من الأحرار الأوائل، كان الأستاذ النعمان أحدهم.
     
وقد أثبتت التجربة - كما أشار ذات الباحث - أنَّ محاولة القاضي الزبيري النبيلة لإيقاف الحرب، وتحقيق السلام، كانت مُغامرة غير محسوبة، لم تأخذ في الاعتبار التغييرات التي طرأت على سوق الحرب، والإقبال عليه في ظل بطء التغييرات الاقتصادية، والاجتماعية؛ بسبب الحرب الشرسة التي شُنّت على الجمهورية. وأضاف زيد: «ولا نملك سوى الانحناء أمام نُبل تلك المحاولة، وفداحة التضحية».
     
خمسة وعشرون عامًا وأكثر، قضاها القاضي الزبيري مُتنقلًا من منفى إلى آخر؛ جَعلته لا يرى في القبيلة إلا إيجابياتها، عدَّها جيش الثورة المـُـنقذ، ولأجل تسليحها أختلف مع الرئيس عبدالله السلال، والمصريين، ليسقط في النهاية شهيدًا وهو رهن حماياتها، وبرصاص بعض أبنائها المـُـغرر بهم 1 إبريل 1965م، وبجانبه رفيق دربه الأستاذ النعمان، وقد رثاه الأخير بعد عامين من سجنه في القاهرة قائلًا:
عامـان مُنــذ غيل الرفيق أمامي
شُلَّت يد الجاني الأثــيـم الـرامي
ما دار في خلدي ولا في خاطري
أنــــي أرى جـُــثـمانه قُــدامــي
ومُضـــرجًا فـوق الثــرى بــدمائه
 في منـظرٍ أدمـى فُــؤادي الدامي
ذكــــــراه لا تنفك بيـن جـوارحي
تحـيا معي في يـقـظـتي ومنامي
     
كان الشهيد محمد محمود الزبيري بشهادة الأستاذ النُعمان أطهر مخلوق عرفته الأرض، لديه روح نقية، وقلب كبير، قال أنَّه سيهبه لوطنه؛ فكان له ما أراد. أليس هو القائل:
بَحَثتُ عن هِبَـــةٍ أَحبـُوكَ يـا وطني
فلم أجد لك إلا قلبــيَ الدامي
     
والقائل:
فـــإن سلمت فـــإني قد وهبت له
دقــائـق العـمر مــاضيـــــه وآتيه
وكنت أحرص لو أني أمــوت له
وحــــدي فـداءً ويبقى كل أهليه
لكــــــنه أجـــلٌ يـأتي لموعـده
مـا كـل مـا تــــتــمناه تـلاقـــيه

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان