تاريخ في مهب الريح: ذاكرة الوطن المنهوبة
الساعة 08:18 مساءً


عمليات قاسية من النَهبِ المُنَظم، باتت اليوم تَهُد مَضاجع حضارة سبأ، ومعين، وحمير، تُخرِجها من سُكونَها المُتجاوز للأزمِنة، العابر للعُصور، تَمسحُ غُبارها، تَغرِس في مَعالمها العتيقة مَعاول الهَدم والتشفي، لتُحولها بلا هوادة من أطلالٍ براقة زاهية بالوصل، إلى صحارٍ مُقفرة تستوطنها الأشباح.

إنَّها الطامة التي تَنخر في جسدِ وطن، والكارثة الآخِذةَ في التَمددِ حد الهَلاك، والكابوس الذي يغتال التاريخ، ويطمس الهوية، والنزيف المُر الذي إن استمر، فلن يبقي ولن يذر، تقوده لوبيات مُتخصصة - تتسلل - تَستَبيح - تَعبث - تُهدر، لتأتي الحرب وتزيد من وتيرته أكثر فأكثر.

تبقى محافظة الجوف أرض معين، وذاكرة الوطن المنهوبة، أكثر الشواهد الحية على فظاعة الكارثة، تُفصح بمُجملها عن صورة قاتمة تتكرر، كانت ذات زمن أرض خصبة، قامت على جنبات واديها الكبير - وادي الجوف - أعظم حضارات الكون، واليوم أضحت مُدنها وخرائبها - معين، خربة همدان الحزم، كمنه، السوداء والبيضاء، وادى الشظيف - عُرضة لنباشي القبور، ولصوص الآثار، والمال السائب - كما قيل - يُشجع على السرقة.

غالبية المواطنون هناك يتعاملون مع الأمر دون مُبالاة، بقايا الآثار بالنسبة لهم إرث يتسابقون عليه، ولا يستحوذ عليه إلا من يلقاها أولاً، والأسوأ أنَّ العُرف السائد لا يستنكر مثل تلك الأعمال، بل يُنميها ضمن بوتقة التنافس في طلب الرزق، يلتقي الجميع في مجموعة واحدة، ثم يشرعون في الحفر، مُحدثين أخاديد واسعة وعميقة تتجاوز أحياناً الأربعة أو الخمسة الأمتار، كما يلجأ بعضهم إلى الجرافات الكبيرة، والمُتفجرات، وغالباً ما تكون عواقب ذلك وخيمة.

تعود البدايات الأولى لنهب الآثار اليمنية إلى النصف الأول من القرن العشرين، وذلك إبان الاحتلال البريطاني للجنوب، حيث نشط حينها عدد من الضباط الإنجليز في عمليات التهريب، مُستغلين ضُعف رقابة السُلطات، وذكرت كلودي فايان في كتابها (كنت طبيبة في اليمن) أنَّ بعض الفرق الاستكشافية في التنقيب عن الآثار في مأرب - كتلك التي أبرمت بعض الاتفاقيات في ذات المجال مع الإمام أحمد - كان لها دور كبير في تهريب الكثير من القطع الأثرية، والاتجار بها، وبيعها للمتاحف الأوروبية، لترتفع وتيرة تلك العمليات أكثر خلال الـ 35 عاماً الفائتة.

طول الفترة السابقة كان العنصر الأجنبي المُتهم الأول والرئيس في نهب الآثار، سواءً من حيث المُشاركة في تلك الأعمال، أو من خلال إغراء أصحاب النفوس المريضة، وبحسب معلومات متداولة فإن بعض الشركات الأجنبية كانت تعمل عملاً مزدوجاً في استثماراتها، ففي الظاهر أنَّها شركات استثمارية سواء نفطية أو استكشافية للتنقيب عن الآثار، وفي الباطن كان لديها خبراء آثاريين، وخبراء مُتخصصين في التهريب، وكم من آثار هُربت في حقائب هؤلاء.

وبالعودة إلى البيانات الرسمية، فقد تم خلال السنوات الماضية ضبط محاولات عديدة لتهريب الآثار، جميع المُتهمين فيها من خبراء شركات النفط العاملة في اليمن، وما لم يُفصح عنه في حينه، أن تلك العمليات كانت تتم بتغاضي وتسهيلات كبيرة من قبل بعض النافذين، وإلا كيف خرجت ثلاثة عروش أثرية من موقع السوداء، الأول بيع لتاجر سويسري بمليون يورو، وتم عرضه لاحقاً في متحف اللوفر، والاثنان الآخران تم بيعهما لشيخ إماراتي بـ 12 مليون ريال؟!!

واليوم، وفي ظل هذه الحرب التي أشعلتها ميليشيات الإمامة، كشف خبير أمريكي أنَّ أكثر من مليون قطعة أثرية منهوبة تم تهريبها عبر دولتي إسرائيل والإمارات العربية المُتحدة، ويرجح البعض أنَّ الآثار التي تتباهى الأخيرة بامتلاكها، وتقوم أمام عدسات وسائل الإعلام باستخراجها من تحت الكثبان الرملية، هي في الأصل آثار يمنية، وسورية، وعراقية، وعلَّق أحدهم على إحدى الصور المُتداولة: «كيف لأثر عمره ثلاثة ألف سنة أن يبقى قريباً من تحت سطح الأرض هكذا؟!».

اليوم وللأسف الشديد أصبح اللاعبون المحليون هم المُتحكمون بالمشهد، وذلك بعد أن اتقنوا اللعبة، وصاروا يعرفون عناوين المُهربين جيداً، دون إدراك أنَّ ما يقومون به هو سلب لهويتنا، وبتر لأجزاء مهمة من حضارتنا، واستئصال لماضٍ عريق عاشه أجدادنا، ويبقى السؤال الصادم: هل يُعقل أن يسرق الواحد منا نفسه، أو أن يساعد على أن يأتي الآخرون لسرقته؟!

صحيح أنَّ بلادنا ليست الوحيدة، إلا أنَّها الأكثر تضرراً، وثمة حشدٌ من الأسباب التي تقف وراء استفحال هذه الظاهرة، ويأتي الجهل المُدقع، والطمع المُهلك في الصدارة، يُضاف إليها أسباب أخرى، كغياب الجهات الضبطية، واتساع رقعة المنافذ اليمنية، وعدم وجود سياسة شاملة للمحافظة على المعالم الأثرية، ووقوع بعضها تحت عبء التمدن الفوضوي، ويبقى تدارك الأمر عنوان المرحلة القادمة، خاصة وأنَّ لسان الحال ما يزال يَصرخ، يُنادي: وتَاريخاه، وحَضارتاه، فمتى يُستجاب له؟

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان