الإسماعيليون في اليمن (2)
الساعة 10:30 مساءً

 

قرامط أشرار!!

 

كان لنجاح دعاة الدعوة الإسماعلية في اليمن أثره البارز في تحفيز الهادي يحيى بن الحسين لتوسيع نفوذه شمالًا، ثم جنوبًا، لم يهنأ خلال سنوات حكمه الأولى بالاستقرار، ما أنْ يُخمد تمرد إلا ويشتعل عليه آخر؛ راسل بني عمومته في طبرستان طالبًا المدد، فأمدوه بمئات الطبريين، وقيل بالآلاف، اختصهم بحراسته، وقيادة جيشه، وأسماهم بـ (المهاجرين)، فيما أسمى القبائل التي ساندته بـ (الأنصار).

كان توجهه - أي الهادي يحيى - الأول إلى صنعاء بعد ثلاث سنوات وإحدى عشر شهرًا من مقدمه 23 محرم 288هـ، بطلب من حاكمها أبي العتاهية عبدالله بن بشر بن طريف، إلا أنَّ أمرها لم يستقر له، ثار عليه سكانها، طردوه منها - بعد مرور خمسة أشهر - شرَّ طردة، ثم ما لبث أنْ استجمع في ريدة قواه، جاءه المدد من الحجاز، فعاود السيطرة عليها، لم تتوقف طول فترة بقاءه الثاني - التي تجاوزت العشرة أشهر - المعارك بينه وبين آل طريف، وآل يعفر؛ فغادرها ذليلًا مدحورًا.

تجدد الخلاف بين آل طريف وآل يعفر، وبطلب من الأخيرين حاول الهادي يحيى السيطرة على صنعاء جمادي الأول 290هـ، مني على مشارفها بهزيمة ماحقة، فعاد أدراجه خائبًا، تاركًا ولده الأكبر محمد تحت مذلة الأسر، وما هي إلا ثلاثة سنوات أخرى، حتى عاود السيطرة عليها، بطلب من سكانها، وعدد من أعيان اليمن المُعارضين لتوسعات علي بن الفضل.

دخل الهادي يحيى صنعاء للمرة الثالثة 4 جماد الآخر 293هـ، طرد أنصار علي بن الفضل منها، وفرض على سكانها أنْ يدفعوا له تكاليف حملته، والمُتمثلة بربع أموالهم إفرازًا ومُقاسمة، ليعود في مطلع العام التالي الحسن بن كبالة - من آل طريف - قاصدًا طرده، وحين رأى - أي إمام صعدة -  امتناع سكان صنعاء عن نصرته، غادرها، فما كان من أنصار ابن الفضل إلا أنْ عاودوا السيطرة عليها، وأذلوا سكانها.
     
أرسل سكان صنعاء إلى الهادي يحيى طالبين نجدته مرة أخرى، فأنجدهم بجيش، ثم أتبعه بآخر، نجحوا بإخراج أنصار علي بن الفضل منها لبعض الوقت، ليعزم الأخير - أي ابن الفضل - على العودة إليها مرة ثانية، تم له ذلك 1 رجب 294هـ، ودام بقاؤه فيها هذه المرة ثلاث سنوات إلا بضعة أيام.
     
ظلت نجران وضواحيها هم الهادي يحيى الشاغل، وهي إنْ دانت له بادئ الأمر دون قتال، إلا أنَّها لم تستقر طيلة فترة حكمه على حال، تسللت إليها معالم الدعوة الإسماعلية على يد حسين الحاشدي، تلقفها أبناء قبيلتي بني الحارث ويام، وثاروا على عامله محمد بن عبيدالله العباسي، فاستنجد به ابن الأخير وكاتب سيرته قائلًا:
ظهر الفساد بأرضنا وبلادنا
قـامت بذلك قـرامط أشرار
كفروا برب الناس يا بن محمد
والكـفر شيمتهم فهـم كفار
فانهض نُصرت عليهم فأبدهم
إنَّ القرامط عاضدتها حار
     
توجه إمام صعدة إلى نجران للمرة الثامنة 20 رجب 294هـ، دمر، وأحرق، وأودع في السجن 20 رجلًا من دعاة الدعوة الإسماعيلية، ليعود بعودته إلى صعدة الصراع، وكان التمرد الأكبر بقيادة شيخ بني الحارث الحارث بن حميد، توجه أنصار الأخير لدار عامله، حاصروه، ثم قتلوه، واحتزَّ أحدهم رأسه وهو يرتجز:
شيـخ لشيـخ وصبي لصبي
شفيت نفـسي منـك يا نسل علي
فلا أبالي بعـدها ما حل بي
مـن سخط الله ومن لعن النبي

في بداية العام 297هـ اجتاح مدينة صنعاء وباء قاتل قضي على كثير من سكانها؛ الأمر الذي أجبر علي بن الفضل وأنصاره على مغادرتها؛ استغل الهادي يحيى ذلك، أرسل بكاتب سيرته علي بن محمد، وشيخ بكيل الدعام بن إبراهيم، ومعهما عدد من العساكر للسيطرة عليها 19 رجب 297هـ، ثم عززهما في الشهر التالي بولده محمد في جماعة من خولان، وهمدان.
     
لم يكد يستقر لمحمد بن الهادي يحيى أمر تلك المدينة المنكوبة، حتى ثار عليه الحسن بن كبالة، فما كان من والده - أي الهادي - إلا أنْ أمره بالعودة إلى صعدة؛ كي لا تجتمع عليهما ثلاثة حروب: أنصار ابن الفضل، وآل طريف، وقبائل نجران.
     
أيام الهادي يحيى الأخيرة كانت الأشد قسوة عليه وعلى أنصاره، كانت آخر حروبه بوادي نجران، انحسرت بفعلها دولته إلى مدينة صعدة وضواحيها، ليتوفى مُتحسرًا مُتأثرًا بجراحه 20 ذو الحجة 298هـ، تاركًا وراءه دُويلةً آيلةً للسقوط، لا إمام لها قَوي يَلُّم الفرقاء، ويُرضِي الأتباع، ولا مَال لها كثير يُساعد على البقاء، ويَكفي الأشياع، أنصارها مُتذبذبون، ومُهاجروها (الطبريون) مُتحكمون، وعلويوها مُتسيدون، وفي الجهة المُقابلة إسماعيليون مُتربصون، يتمددون في الجهات الأربع.
      
رفض محمد بن الهادي يحيى تولي الإمامة بعد وفاة أبيه، وما قبلها مطلع العام 299هـ إلا على مضضٍ؛ بذريعة مُحاربة الإسماعيليين الذين توسعوا حينها شمالًا، واقتربوا من مدينة صعدة، وقد كانت له - أي الإمام الجديد الذي تلقب بـ (المرتضى) - معهم حُروب كثيرة، حقق فيها بعض الانتصارات، فيما اقتصر حكمه على خولان، وبعضًا من همدان، ونجران.

جاء في كتاب (اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين)  لشهاب الدين أحمد بن علي المقريزي بأنَّ الحسن الصناديقي القرمطي استولى على اليمن، ودخل في دعوته خلق كثير، فأظهر العظائم وقتل الأطفال، وسبى النساء، وتسمى برب العزة، وهي التشنيعات التي قيلت أيضاً في حق علي بن الفضل - كما سبق أن ذكرنا - وتكرارها هنا، وبهذا الأسلوب الـمُقزز يُفند الحكاية برمتها.

وأضاف ذات الـمُؤرخ أنَّه - أي الصناديقي - حارب المرتضى محمد، وأزاله عن عمله من صعدة، ففر منه بعياله إلى جبل الرس، ثم أظفره الله به فهزمه بأمر إلهي، فأهلكه الله، وبقي منهم بقيةً، فاستأمنوا إلى المختار القاسم بن الناصر أحمد، والرواية بمجملها مشكوك في صحتها، ولم يذكرها أحد من المُؤرخين اليمنيين.

اضطرب الناس إلى المرتضى محمد، ولم يرتضوا به إمامًا، فخطب فيهم يدعوهم إلى طاعته، مُذكرًا إياهم بإلحاحهم عليه بادئ الأمر بتولي الإمامة، وميلانهم بعد انتصاره على الإسماعيليين عنه، مُفصحًا عن نيته باعتزال الأمر، وهو ما كان 21 ذو القعدة 299هـ.

أمام ذلك الفراغ راسل أنصار الزّيدِيّة شقيقه أحمد الذي كان حينها مُقيمًا في جبل الرس، قبل الأخير دعوتهم، وعاد إلى صعدة، وتولى الإمامة فيها 8 صفر 301هـ، وتلقب بـ (الناصر)، استقرت دويلة الإمامة نوعًا ما في عهده، واستطاع بسط نفوذه على خولان الشام، وهمدان، ونجران، وملك الجوفين، وكانت له فيها مزارع كثيرة.
     
مكّن الناصر أحمد أقاربه من المناصب المهمة، وطلب المدد كأبيه من طبرستان، وحارب القبائل التي عارضته، وكان شيخ حاشد أحمد بن الضحاك وزيره الناصح، وصاحبه الصدوق، أرسله في العام 303هـ إلى عذر، والأهنوم، وظليمة، وحجور لإرجاع سكان تلك النواحي عن مذهب الإسماعيلية، وحين أبوا، توجه الناصر أحمد إليهم بنفسه، أرجعهم إلى حظيرة دويلته، إلا أنَّ ذلك الوضع لم يستمر طويلًا.

وفي الجانب الآخر اختلف علي بن الفضل مع صديقة الحسين بن حوشب، تحاربا 299هـ، ودارت بينهما - كما أفاد المُؤرخ إدريس عماد الدين - وقائع كثيرة، هزُم في آخرها الأخير، فأخذ المُنتصر ولده رهينة، وفي جبل مسور استقر المهزوم، وبعد ثلاث سنوات كانت وفاته 11 جمادي الآخر 302هـ.
     
عاود علي بن الفضل السيطرة على صنعاء 9 رمضان 299هـ، لم يستقر فيها طويلًا، غادرها إلى عاصمته مذيخرة، وجعل عليها أسعد بن يعفر، بعد أنْ تصالحا، خطب له الأخير، وقطع ذكر العباسيين، واطمأنت المدينة في أيامه، حتى جاءه - أي أسعد - طبيب من بغداد، أكرمه، واتفق معه على قتل ابن الفضل، فكان ذلك 15 ربيع الآخر 303هـ، فدانت للأمير أسعد مُعظم البلاد اليمانية عدا صعدة.
     
لم تنتهِ شوكة الإسماعيليين بعد وفاة الحسين بن حوشب، ومقتل علي بن الفضل، ولم يخفت ذكرهم؛ بل ظل حضورهم في بعض المناطق الشمالية الغربية طاغيًا، تمددوا إلى حوث، فخرج الناصر أحمد لقتالهم محرم 305هـ، لم ينتصر عليهم، وفي ذلك قال صاحب (أنباء الزمن): «وما زالت الحروب قائمة في أكثر الجهات، وسحائب الفتنة مُمتدة في أغلب الأوقات».
     
وفي غرة رمضان من العام 307هـ، حصلت واقعة نُغاش في جبل عيال يزيد، وهي معركة شهيرة وفاصلة، تجاوزت قوات الإسماعيليين فيها الـ 7,000 مُقاتل، فيما اجتمع للناصر أحمد حوالي 1,700 مُقاتل، جلهم من همدان، لم يشاركهم الأخير القتال؛ بل جعل عليهم صاحبه أحمد بن الضحاك، وكاتب سيرته عبدالله بن عمر الهمداني، وآخرين.
     
تحصن الإسماعيليون في قصر الحمدي، وفيهم صاح صائح من معسكر الناصر أحمد قائلًا: «يا مَعشر القرامطة، أنتم تزعمون أنكم شيعة لآل محمد، وأنكم لهم أنصار، فما بالكم قابلتوهم بجيوشكم.. وإني أدعو دعوة وأبتهل إلى الله عز وجل في قبولها: اللهم بعزتك وسلطانك وامتنانك.. من كان منا ومنكم مُبغضًا لمحمدٍ وآل محمد فأهلكه اليوم..»، فردوا عليه بأصوات عالية: آمين.. آمين!
     
كانت هزيمة الإسماعيليين في تلك الواقعة مُنكرة، خسروا فيها 1,500 من مُقاتليهم، وعنها وعنهم قال كاتب سيرة النَّاصر أحمد: «لقد شهدت الحروب وعاينتها مذ بلغت الحلم، فما رأيت يومـًا كيومِ نغاش أكثر قتلى من أعداء الله القرامطة.. فلقد سمعت للدماء خريرًا كخرير الماء إذ هبط من صعود».
     
وكان الغطريف بن الضحاك الصائدي يقاتل الإسماعيليين وهو يرتجز:
سيـدنا النَّاصـر بـادٍ علــمه
مثـل الهـلال زينـته أنجـمـه
همـدان في كل معار تقـدمه
طرًا وخولان جميعًا تخدمه
لا بد من حصن اللعين نهدمه       
ونسـتحـل مــاله وأنعـمه

نجا قائد الإسماعيليين عبدالحميد بن محمد الحجاج من الموت، وفرَّ وأصحابه إلى حلملم إحدى قرى الأشمور، ومنها إلى جبل مسور معقل الإسماعيلية الحصين، وهناك حاصرهم الناصر أحمد إلى بداية العام التالي، راسلوا - أي الإسماعيليين - إبراهيم بن محمد الحرملي - أحد قواد آل يعفر - بذلوا له الأموال، فأنجدهم على الفور.

كي لا يثير غضب الأمير أسعد بن يعفر؛ انسحب الناصر أحمد بقواته إلى صعدة، ليطلب الإسماعيليين في منتصف العام 310هـ / 922م الهدنة، نالوها، إلا أنَّ الحرب بينهم وآل يعفر لم تتوقف، كانت آخر حروبهم على حصن شُكع 28 رمضان 319هـ، هُزموا فيها، وقتل اثنين من كبرائهم، وعلق أحد المُؤرخين الإماميين على ذلك: «فقتل داعيا الكفر، وأخذت رؤوسهما، وحملت إلى كحلان، وغنم المسلمون ما كان معهم».
     
يصعب الإلمام بتاريخ الإسماعيليين في اليمن وغيرها من البلدان؛ لأنَّ دعوتهم قائمة في الأساس على السرية، ومليئة بالغموض، انحصروا بعد هزائمهم السابق ذكرها في جبل مسور، وتعاقب على قيادتهم حتى قيام الدولة الصليحية حوالي تسعة دعاة، ولم يُسجل المُؤرخون أي صراع بين هؤلاء ودعاة الإمامة الزيدية خلال هذه الفترة التي استمرت قرابة الـ 120 عامًا.
     
وكما اعتمد دعاة الإمامة الزيدية على الدعوة الجهرية، اعتمد دعاة الإمامة الإسماعيلية على الدعوة السرية، حتى إذا ما استتب للأخيرين الأمر؛ لجأوا إلى القوة، حكموا، وتحكموا، كما فعل الحسين بن حوشب، وعلي بن الفضل من قبل، وكما فعل علي بن محمد الصليحي - أحد أشهر دُعاتهم - من بعد، وللقصة بقية.

    .. يتبع

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان