من وحي وثائق اللجنة الخاصة المُسربة (5)
الساعة 07:39 مساءً

 

كيف حاربت السعودية الوحدة؟

      

بعد قيامه برحلة علاجية إلى الولايات المُتحدة الأمريكية، وزيارتين سريعتين إلى كلٍ من فرنسا والأردن، عاد علي سالم البيض إلى عدن 19 أغسطس 1993م، وفيها آثر الاعتكاف للمرة الثالثة خلال أقل من عام، وهو الاعتكاف الأطول والأخير، ليُقدم في مُنتصف الشهر التالي مشروعًا إصلاحيًا من 18 نقطة، مُلخصًا مطالبه برفض سياسة الضم والإلحاق والإقصاء، مُعلنًا بدء الأزمة الحقيقة بين شركاء الوحدة، وهي من عُرفت بـ (الأزمة الثالثة).
      
تقمص التجمع اليمني للإصلاح - هذه المرة - دور المُصلح، عمل في البداية على إخمـاد مواضع الانفجار، مـع ميل خفي نحـو صالح، ليتحول فيما بعد إلى تابع مُطيع لهذا الأخيـر؛ بدليل تحميل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وعبدالوهاب الآنسي الحزب الاشتراكي وحده مُسؤولية افتعال الأزمة، رغم أنَّ أكثر من 150 من كوادر الحزب تعرضوا خلال العامين السابقين للاغتيال، دون أن تفصح الجهات الأمنية عن أي غريم.
      
كانت حينها رؤية عودة الفرع للأصل لا تزال مُسيطرة على الزعامات القبلية التي كانت وما تزال تلعب دور المُصلح التقليدي، وهو الدور الذي غاب وغُيب لحظتها، ما جعل قيادات الحزب الاشتراكي تشعر أنَّ دورها أصبح ثانويًا، وأنَّ هناك استعجالًا ورغبة جامحة في إخراجهم من الحلبة، خاصة بعد أن قام حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني الإصلاح بإجراء تعديلات دستورية انفرادية، أو بمعنى أصح استفزازية، انتقصت من قيمة البيض كشريك رئيسي في تحقيق الوحدة، وساهمت في تأجيج الموقف، وحين طرح سالم صالح محمد حينها الفيدرالية كحل ناجع لإنهاء الأزمة، جوبه بحملة شعواء من قبل الطرف الأكثر تسلطًا.
      
صمَّ صالح أذنيه عن طبول الحرب مؤقتًا، وقرر أن يناور كعادته، انصاع إلى مطالب الأغلبية بحل الأزمة سلميًا، لتتشكل - تبعًا لذلك - لجنة حوار من جميع الأطياف 22 نوفمبر 1993م، تسلمت جميع أوراق القضية، واستمر عملها قرابة شهر، وعقدت 11 اجتماعًا، وذلك بالتزامن مع حدوث احتكاكات عسكرية بين طرفي الصراع، واستمرار عمليات اغتيال جنوبيين؛ الأمر الذي خدم الحزب الاشتراكي في موقفه، وأدى إلى استدعاء وساطة عُمانية - أردنية، وتشكيل لجنة عسكرية من الطرفين، بمشاركة الوسيطين، والملحقين العسكريين الأمريكي والفرنسي، الأخير ممثلًا للاتحاد الأوربي.
     
كانت الاتهامات المُتبادلة - رغم استمرار الحوار - حاضرة وبقوة، تناولتها وسائل إعلام الطرفين بصورة مُبالغ فيها، تارة اُتهم هذا الفريق باستخدام خبراء عراقيين، واستيراد أسلحة كيماوية، وإجراء تدريبات مُكثفة لقواته العسكرية، استعدادًا للانقضاض على الجنوب، وتارة اُتهم الفريق الآخر باستقدام خبراء روس، واستيراد أسلحة وطائرات وأدوات تجسس، استعدادًا للانفصال عن الشمال، وغيرها الكثير. صحيح أنَّ بعضًا من تلك الاتهامات كانت حقيقية، إلا أنَّ الإشاعة المُضللة ظلت سيدة الموقف، وتاهت الحقيقة بين هذا الاتهام وذاك. 
     
كان حُكام صنعاء سباقون بالتهدئة الإعلامية، ظلوا يترقبون عودة على سالم البيض - الابن الضال حد توصيف أحدهم - للتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق - خُلاصة ما توصلت إليه لجنة الحوار السابق تشكيلها - وحين لم يعد؛ ذهبوا إلى الأردن، ووقعوا بوجوه واجمة - ذات مساء رمضاني - على بنودها 20 فبراير 1994م. تبادل الطرفان أثناء مراسم التوقيع الاتهامات، ولم يمد صالح يده لمصافحة البيض، لولا أنَّ الملك حسين بن طلال دفعه خجلًا إلى ذلك، غادرا الرجلان عمَّان بروح مشحونة، وعداء أشد، وحقد أعمق، وعادا بعد زيارات محدودة لبعض دول الجوار كلٌ إلى عاصمته.
      
قبل عودته إلى عدن، قام البيض بزيارة سريعة إلى جدة، وحظي هناك باستقبال رسمي حافل من قبل الملك فهد بن عبدالعزيز وعدد من أفراد الأسرة الحاكمة؛ الأمر الذي جعل صالح يتهمه بأنَّه استلم ثمن تلك الأزمة من الخارج، في إشارة إلى المملكة العربية السعودية، الجارة المُتسلطة التي تخلت فجأة عن عملائها الشماليين، وعملت خلال الثلاثة الأعوام الفائتة على استمالة بعض القيادات الجنوبية، وتحفيزها تدريجيًا على إعلان الانفصال، ولولا ذلك التدخل السافر لما وصلت الأزمة إلى ما وصلت إليه.

كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر من جُملة المُوقعين على تلك الوثيقة، واشترط أمام توقيعه على إنهاء الأزمة، وعودة المسؤولين عليها، رغم أنَّ تلك العودة مرهونة بتنفيذ شقها الأمني، واعتقال مُرتكبي الاغتيالات السياسية التي استهدفت مُسئولي الحزب الاشتراكي وعناصره، والأدهى والأمر من ذلك أنَّه اعتبرها - أي الوثيقة - بأنَّها أسوأ من الانفصال، وأن تطبيقها سيؤدي إلى تمزيق اليمن، وتحيلها إلى كيانات هزيلة ومُنفصلة عن مركز الدولة الأم.

كل المُؤشرات حينها كانت تؤكد أنَّ الحرب قادمة لا محالة؛ فـصالح لم يكن قادرًا على تنفيذ الوثيقة؛ كونها في اعتقاده تهدف إلى تفكيك قواه، وخلق صراع بينه وبين حلفائه، في حين بدأ البيض وقلة من أعضاء الحزب الاشتراكي يمهدون للانفصال، بدعم وتحفيز كبيرين من قبل المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج؛ بذرائع واهية، منها استحالة التعايش مع القوى السياسية في الشمال, وأنَّ الاستمرار في الوحدة الاندماجية سيؤدي إلى التخلص منهم نهائيًا.

وأحبار من وقعوا وثيقة العهد والاتفاق لم تَجف بعد، وفي اليوم التالي لتوقيعها 21 فبراير 1994م، بدأت المدافع في محافظة أبين تتبادل القصف بين قوات لواء العمالقة - الشمالي، وقوات لواء مدرم - الجنوبي، الأمر الذي دفع الحزب الاشتراكي لتعزيز وجوده العسكري هناك بإرسال ثلاثة ألوية، لتنجح اللجنة العسكرية بإيقاف تلك المواجهات بعد ساعتين من اندلاعها، فيما ظلت أصابع الفريقين على الزناد.
      
لم يكد ذلك الأسبوع الدموي ينتهي حتى اشتعلت المواجهات في مديرية حرف سفيان من جديد 27 فبراير 1994م، وذلك بين قوات موالية للبيض، مسنودة بلفيف من أبناء المنطقة (الإماميين)، وأخرى موالية لصالح، وجميعها مُنضوية ضمن إطار اللواء الخامس مُشاة التابع للفرقة الأولى مدرع، وقد انتهت تلك المواجهات بسقوط 75 بين قتيل وجريح من الجانبين.
     
لبس صالح بزته العسكرية؛ وأثار بذلك غضب حلفائه قبل أعدائه، وقد كان الشيخ مجاهد أبو شوارب - أحد مُهندسي التوقيع على الوثيقة، وصاحب اقتراح اختيار مكان توقيعها - من جُملة أولئك المُستائين، ساهم - من قبل ومن بعد - في تقريب وجهات النظر، ونزع فتيل الانفجار، دعا إلى مُغادرة النائب والرئيس السلطة، ليتهمه الأخير بأنَّه يطمح بالحلول محله، لم تتوقف - رغم ذلك - رحلاته المكوكية ما بين صنعاء وعدن، ليفقد الأمل في النهاية؛ خاصة وقرار الحرب قد اتخذ مُسبقًا، وكم كان الشيخ الحاشدي صادقًا في توصيفه حين شبه لقاء عَمَّان بالمواجهة الأخيرة التي تسبق الطلاق وفك الشراكة.
    
عادت بعد ذلك لجنة الحوار لتمارس دورها، وذلك بالتزامن مع عودة المُناكفات الإعلامية، والاستعدادات العسكرية - بين الجانبين - لسابق عهدها، وحين ارتفعت وتيرتها، وكان الوضع مهيأ في أي لحظة للانفجار؛ طلب البيض من السلطان قابوس بن سعيد التدخل، تدخل الأخير، والتقى الرئيس ونائبه في صلالة 5 إبريل 1994م، واتفق الرجلان - في لقاء مُغلق - على أن تلتقي شخصيات من الطرفين لإصدار بيان مُشترك، يتضمن التفاهم على وأد الحرب، عبر إعادة عمل اللجنة المُشتركة لتلافي أي احتكاكات بين القوات العسكرية المُتجاورة.
     
تشكلت لجنة ثنائية من الطرفين، مثلَّ فيها صالح عبدالكريم الإرياني، وعبدالوهاب الآنسي، ومثلَّ البيض صالح أحمد عبيد، وياسين سعيد نعمان، وحين اقترح الأخير صياغة البيان المُشترك، رفض الإرياني والآنسي الفكرة من أساسها، ومما قاله الأول أنَّه لا علم له بالأمر، مُصرحًا لجريدة (المصور) المصرية: «ولي الشرف أنني كنت سببًا رئيسيًا في إفشال ذلك اللقاء» - يقصد لقاء صلالة - أما الأخير فقد اعتبر المسألة من قبيل التآمر ضد حزبه، وفسر ذلك - فيما بعد - بأنَّ المؤتمر والاشتراكي عقدا صفقة سرية لإعادة تقاسم السلطة، وإبعاد الإصلاح، وهكذا انفض الاجتماع بدون أن يخرج بنتيجة. 
      
ظلت الأزمة تتفاعل، والتوتر يتصاعد، حتى انفجر الموقف بعد ذلك في مدينة ذمار 8 إبريل 1994م، وذلك بين معسكر باصهيب الميكانيكي - جنوبي، وقوات الحرس الجمهوري - شمالي، واستمرت المواجهات لمدة ساعتين تقريبًا، ولولا تدخل اللجنة العسكرية المُشتركة؛ لتحولت تلك التحرشات الاستفزازية إلى معركةٍ شاملة لا تبقي ولا تذر.
     
بُحت حينها أصوات أطراف الوساطة العربية مُجتمعة وهي تناشد صالح أن يلتزم المنطق، وأن يسير في طريق وثيقة العهد والاتفاق؛ كي يجنب البلاد مخاطر الحرب والدمار، وقد تعهد الأخير بالفعل بعدم اللجوء إلى الخيار العسكري مهما كانت الأسباب، ولأن تلك الأطراف اكتفت بالمناشدة عن بُعد، ولم تضغط على الجميع بما فيه الكفاية، عادت المواجهات لتشتعل من جديد.

في شهادته على تلك المرحلة، أفاد أنيس حسن يحيى أنَّ البيض لم يُحسن التصرف بعد توقيعه وثيقة العهد والاتفاق، مُضيفًا: «كان يجب أن نتصرف بذكاء بعد عمَّان.. كان يجب إنهاء الاعتكاف، وأن نتعامل مع مهماتنا بمسؤولية.. وكنت أقول للإخوة أن يطلعوا إلى صنعاء. نحن بالاعتكاف قدمنا للطرف الآخر أن يشن الحرب علينا».
             
وفي ذات السياق قال القيادي الاشتراكي يحيى منصور أبو أصبع أنَّ المرة الوحيدة التي شاهد فيها زميله جار الله عمر يبكي بكاء الأطفال - أي بغزارة - وهو يقول: «لقد خسرنا الفرصة التاريخية»، كانت بعد فشلهما ومعهما يحيى الشامي في إقناع البيض وغيره من قيادة الدولة في الحزب الاشتراكي في العودة من عَمَّان إلى صنعاء، وذلك بعد توقيع وثيقة العهد والاتفاق.

كان البيض مُتناقضًا للغاية، يظهر كوحدوي أمام أصدقاءه الوحدويين، وكانفصالي أمام أصدقاءه الانفصاليين، ولو أنَّ الفريق الأول حدَّ من تواصله مع الأخيرين (عملاء السعودية)، أمثال عبدالله عبدالمجيد الأصنج، وعبدالرحمن الجفري، وأحمد بن فريد الصريمة؛ لما تزحزح عن موقفه الوحدوي قيد أنملة، ولما ركب حصان آل سعود الخاسر، ولما خسر المعركة سياسيًا، ثم عسكريًا، ولما انتهى به الأمر منفيًا خارج وطنٍ قَدَّم لأجله الكثير.

وأختم هه الجزئية بالقول: للسياسة رجالها، ولم يكن البيض يومًا من مُجيديها، ولا من مُدركي ألاعيبها، كان عاطفيًا حد السذاجة، وأي ريح سموم وافدة كانت تَهُزُ كيانه، وتقلب مَداركه رأساً على عقب، وهي النافذة التي تسلل منها اللاعب الخارجي، واستغلها عبر أذرعه المعروفة بذكاء، صحيح أنَّه - أقصد اللاعب - استفاد منها لبعض الوقت، إلا أنَّ الاستفادة الكبيرة كانت من نصيب صالح، الذي صار يزبد ويرعد ويتوعد، ويُقدم نفسه - صباح مساء - بأنه حامي الوحدة، وحارسها الأمين، وبأنَّه مُستعد لأن يُقدم للدفاع عنها قوافل من الشهداء.

    .. يتبع

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان