أنا والمظاهرات الحاشدة.. همسة بأذن الإصلاح
الساعة 12:44 مساءً

 

كان عمري 14 سنة، وفي الصف الثاني ثانوي في مدرسة السعيدية الثانوية في القاهرة.

كنا في العام 1963، وكل عدة أشهر يحدث انقلاب عسكري إما في سوريا أو في العراق.
وكان للاتحاد الاشتراكي العربي- في الجمهورية العربية المتحدة (يعني مصر)- رأي حاد مع أو ضد تلك الانقلابات.

بالرغم من صغر سني، إلا أني كنت أقرأ محاضر المناقشات بين جمال عبدالناصر وقادة البعث في دمشق وبغداد للقيام بوحدة ثلاثية بعد انفصال سوريا، والتي كانت جريدة الأهرام تنشرها بطريقة مثيرة أولاً بأول.

وكانوا يخرجوننا من الفصول الدراسية إلى مسيرات في شوارع القاهرة تلتقي مع مسيرات جامعة القاهرة المجاورة لمدرستنا ثم تلتحم مع مسيرات بقية المدارس وتصبح حاشدة.

وكنا نهتف..
مرة بالتأييد.. ومرة بالتنديد.

أتذكر مشاعر متناقضة وأفكاراً تتقفز في رأسي.
وشوية شعور بأني مهم وبأني أشارك بصناعة التاريخ.
وحتى يمكن تساؤل: مدري إيش سيحدث لو لم أساهم في المسيرة.
وكعادة ذهني، فإنه يستمر بالتساؤلات والحصول على إجابات لا علاقة لها ببعضها ولا بما يحدث.

هل من حقهم يخرجوننا من فصولنا لنهتف في الشوارع؟
كيف سيعملون بالحصص التي ضاعت علينا؟

وحتى مع شوية فرحة، بأننا تخلصنا من يوم دراسي.
الذي يقول بأن التلاميذ لا يعجبهم تفويت يوم مدرسي، لا تصدقوهم.

كانت المظاهرات الناصرية تلك الأيام، ترج كل شوارع المدن العربية من: "الخليج الثائرِ إلى المحيط الهادرِ".
واليوم يسميهم أصحاب حزب الإصلاح مظاهرات: "أبو سبعة نفر".
وهذه حال الدنيا.

•المظاهرة الثانية

استمعت إلى خطاب التنحي لجمال عبدالناصر في مساء 13 يونيو 1967، بعد أن اكتملت هزيمته الساحقة الماحقة أمام إسرائيل.

وأنا أسمع الخطاب- وقد كنت في إعدادي كلية الطب- شيء في داخلي كان يصرخ: "لا".

علمت بعدها في الليل بأن الجماهير تزحف إلى ميدان التحرير وتقول: "لا".

صباح اليوم التالي، ومن ذات نفسي- كنت أصرخ في ميدان- ولكن هذه المرة بصوت عالٍ- وسط أمواج متلاطمة من البشر.

وكالعادة، أستطيع أن أخرج من داخلي وأتفرج على نفسي.
لا أحب الصراخ ولا الهتاف ولا الزحام، فكيف أقوم بكل هذا بإرادتي.

وقلت لنفسي بنفسي إنها: روح القطيع"، حتى بالرغم من أني كنت لا أريد أن يتنحى عبدالناصر بهذه الطريقة.

في وفاة عبدالناصر، قد كنت اجتزت امتحان السنة ثالثة طب.. حزنت عليه، ولكني لم أخرج في أعظم حشود مصر ولا في أعظم جنازاتها.

ناس يرحلون، وناس يأتون.
وهذه حال الدنيا.

•المظاهرة الثالثة

علي عبدالله صالح، كان قائداً عسكرياً لمحافظة تعز عام 1978، فقفز إلى صنعاء بطائرة هليكوبتر بعد مقتل الغشمي مباشرة.

كان صالح يريد أن يفرض نفسه رئيساً لمجلس قيادة، ولكن قانونياً حاذقاً نصحه:
"ولماذ لا تكون رئيساً دستورياً للجمهورية؟"
"عندنا مجلس شورى وعندنا قوانين منظمة لمثل هذا الموقف، وعندنا عبدالكريم العرشي."

وكان علي صلاح، نائباً لقائد تعز، الذي طار إلى العاصمة يريد أن يصبح الرئيس.

أخرج علي صلاح وجاهات وطحاطيح أشكال وألوان إلى شوارع تعز يهتفون بضرورة أن يختار مجلس الشورى هذا الرئيس.

وكنا نشعر بالخزي والحياء بالنيابة عن هؤلاء الذين أخرجوهم في مسيرات هكذا.

حتى جاء دورنا، نحن أطباء مستشفى الثورة في تعز.

الإغراء والإغواء كان بأن هذه: "فرصة عظيمة، بأن تكون تعز صانعة لرئيس اليمن ولشخص عاش بينهم وسيرد لهم الجميل."

الإيحاء والكلام المبطن، كان أيضا حاضرا:
"الذي لن يتظاهر.. مدري إيش سيحصل له."

وفي اليوم التالي كنت بين المتظاهرين الذين خرجوا بالبلاطي البيضاء للممرضين والأطباء.
وكان هناك أعز وأحسن رجالات تعز معنا يسيرون.

هذه المرة، كنت غارقا بالخجل وعاجزا عن التأمل أو التبرير.

أشياء مؤلمة تحدث لنا من وقت لآخر.
وهذه حال الدنيا.

•حمى المظاهرات "الحاشدة"، في اليمن

منذ عام 2011، انتابت اليمنيين حمى "الحشود" والمسيرات، كأداة من أدوات التنافس والصراع السياسي، ومعها الأسماء والكنايات المصاحبة لها.

مظاهرات: "أبو ألفين".. "أبو كفين".. "أبو نفرين".. حتى وصلنا إلى كنية مظاهرات "مسعدة".

*الحوثيون، يحشدون أعدادا مهولة في صنعاء وفي كل عواصم المحافظات في المناطق الواقعة تحت أيديهم، حتى في الحوبان خارج مدينة تعز.

فهل هذا يعطيهم شرعية أو مبررا لحكم اليمن؟

*حزب الإصلاح في تعز- على بعد مسيرة دقائق بالسيارة من الحوبان- يحشدون أعداداً ضخمة أكثر من أصحاب "أبو سبعة نفر".

فهل هذا يعطيهم الحق أو المبرر للاستئثار بحكم تعز؟

•همسات في أذن حزب الإصلاح

*أنا أعرف كل الناس في تعز.
أكلت وشربت وقيلت معهم.
تناقشت وتكلمت مع كل ألوان الطيف في تعز.
وبحكم مهنتي كطبيب فحصتهم وعالجتهم وتكلمت مع آلاف النساء والأطفال والرجال في تعز.

وعرفت الرجعيين والتقدميين والمتزمتين والمتحررين والعقلانيين والمتشنجين والناصريين والبعثيين والإشتراكيين والسلفيين والإخوان المسلمين.

وحتى عرفت المهاجرين، الذين يتركون بيوتهم يوم الخميس والجمعة ويعيشون في البراري والشعاب اقتداء بمن هاجر من مكة إلى شعابها قبل 1500 سنة.

*وأنا أعرف روح تعز.

وأقول لكم -بأعلى صوت- بأن ما يحدث الآن في تعز، ليس به أي شيء من روح تعز، سواء بحشود أو بغير حشود.

*وأنا أعرف أيضاً أن هناك شيئاً عظيماً في تعز -وحتى في كل اليمن- اسمه: "الأغلبية الصامتة".

الأغلبية الصامتة، أعظم حجماً من كل هذه المسميات التي ذكرتها.
الأغلبية الصامتة، تتفرج مذهولة على كل هؤلاء الذين خرجوا من أحشائها ولا تدري ماذا تعمل بهم.

الأغلبية الصامتة، يصيبها الأذى منهم كلهم ولا تقدر على عمل أي شيء تجاههم وهم يدعون بأنهم أبناؤها بينما هم يروعونها وحتى يتبادلون الرصاص في شوارعها، باسم الله وباسم الدولة وباسمها هي نفسها أي الأغلبية الصامتة.

•آخر همسات لحزب الإصلاح:

*نحن لا نرضى باجتثاثكم من تعز، ومن باب المصلحة -إن لم يكن باب الرفقة والعيش والملح- لأن اجتثاثكم سيخلق فراغا تنجذب إليه حشرات فتاكة بتعز.

*أنتم معكم مشكلة في القدرة على كسب ود الآخرين.
دوروا لكم على ناس يكونوا "أبو النوب"، ويقدروا على جذب الآخرين.
المواعظ والزعيق والكلام الذي بلا معنى، لا يجذب الآخرين.

*شوفوا لنا حكاية "المرقمين" و"الرتب" و"القيادات" و"المناصب"، وتخلوا عن بعضها.

ما الذي سيقع بكم إذا تنازلتم عن بعضها للآخرين، حفاظا على السلم الاجتماعي.

*الآخرون، هم مثلكم يا حزب الإصلاح، يريدون الأمن للناس ويريدون تحسين حياة الناس، ويريدون تحرير بلادهم.

لماذا لا تتعاملون معهم الند للند، وتخلصونا من هذا النكد وهذا الصراع الذي سمم حياة تعز.

*لا تردوا -لو سمحتم- بأن الآخرين هم السبب، وأن حديثي يجب أن يوجه إليهم.

ولا تزعلوا!

أنا الآن أوجه نفس الكلام إليهم.
لكن ماذا تريدون منهم أن يقدموا بالمقابل؟
هل بأيديهم شيء؟
قولوا ماذا تريدون منهم بالاسم وبالعدد وبالمكان والزمان، وهم يسمعون.

وابدؤوا التواصل والحوار، بعيداً عن عيال مسعدة وعيال سوسن وعيال نوال.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان