المسؤولية مواقف
الساعة 09:05 مساءً

مسؤولية العلم أو مسؤولية المنصب، هي في المحصلة  النهائية مواقف. و هما توجبان على من يكون له منزلة في هذه أو تلك، أن يكون بمستوى المكانة التي يمثلها أو حظي بها ؛ عِلما أو منصبا، و أن يحفظ للعلم قدره، ويحفظ للمنصب مكانته، و أن يؤدي رسالة علمه، أو وظيفة منصبه، بكثير من الصبر و التواضع، و الاتزان و التوازن، وأن يكون همه أن يقوم فيها  بما يوفّيها حقها من الأمانة والجدية، دون تضجر أو سخط، أو تعال أو كبر، أو محاباة أو انحياز، أو تغيب أو إهمال، و أن يترفع عن أن يُسْتدرج إلى مزلّة ردود الأفعال . 

 

    أذكر حين كنت في المدرسة الاعدادية؛ بحي المعلا بعدن؛ كان يدرس لنا اللغة العربية مدرس عراقي، و كان قريبا إلى نفوس الطلاب، إذ لم تكن له حدّة و صرامة  بعض المدرسين ، و كان بارعا في طريقته و تقديم دروسه، و إن كان هذا ، ليس موضوع هذه السطور -   لكن من حق مدرسينا و أساتذتنا علينا أن نذكرهم بكل خير على ما أسدوه لنا في كل المراحل الدراسية - غير أن ما أود أن أقوله - هنا - أن هذا الاستاذ  ذكر لنا - يوما - في قاعة الدرس؛ موقفا طريفا لعالم لُغوي عراقي شهير اسمه مصطفى جواد،  و بالمناسبة كان استاذنا اسمه جواد، وكان مما قاله : أنه كان للدكتور مصطفى جواد برنامجا إذاعيا يوميا، يذاع من إذاعة بغداد بعنوان : قل و لا تقل ، و كان في كل صباح يستقل سيارة أجرة إلى مقر عمله .  وذات صباح جاء و أخذ مقعده على سيارة الأجرة، و بعد هنيهة بدأ صاحب السيارة يتضجر من طول انتظاره للركاب، فمد يده ليُذهب السآمة عن نفسه إلى مفتاح الراديو في السيارة، و إذا هو يفتح على برنامج : قل و لا تقل، و إذا بصوت الدكتور مصطفى يصدح من الراديو : قل يا أخا العرب، و لا تقل يا أخو العرب ؛ و لأن صاحب السيارة كان متضجرا من تأخر الزبائن أخذ يقول : قل يا أخو ( الوسخة ) و لا تقل يا أخو (...) و أغلق الراديو بعصبية، فراح الدكتور مصطفى  يصحح له اللفظ : قل : يا أخا الوسخة، و لا تقل يا أخو ال .... !

 

    كان السائق بالطبع لا يعرف أن الراكب الذي معه هو العالم اللغوي الكبير، و صاحب البرنامج الذي تبثه الإذاعة .

    لم يستفز الدكتور مصطفى جواد ما تلفظ به السائق من تهكم و شتيمة، بقدر ما راح بأريحية متناهية  يصحح له كيف يبني العبارة بناء صحيحا، و يقولها قولا سليما : قل يا أخا... و لا تقل يا أخو ... !!

    بدا الدكتور و لسان حاله كما قال حسان :

   لساني صارم لا عيب فيه   و بحري لا تكدّره الدِّلاءُ

 

    مكانة المرء العلمية أو الفكرية أو الإدارية.. أو غيرها تستلزم الرزانة و الاتزان و التوازن، بل هي المهارة التي تمثل بيت القصيد لتلك المكانة العلمية أو الوظيفية  يوم أن تتحول إلى ثقافة سلوكية، كالتي ترجمها الدكتور مصطفى جواد فعبرت عن هامته العلمية، و قامته الفكرية ، و انضباطه السلوكي .

 

    المسؤول الإداري، و خاصة المسؤول الرسمي الذي يتبوّأ منصبا رفيعا يقف تحت مراقبة أنظار الجميع، و في الوقت نفسه محل تلقي مطالب و مشاكل الجميع، و عليه هنا أن يكون على مسافة واحدة من الغني و الفقير، و دون أن يفرق بين  القريب و البعيد، و لكن لا يقف على مسافة واحدة من الظالم و المظلوم ..!!

 و عليه في كل الأحوال ألا يستخفه مدح، و لا يستفزه قدح، و إلا كان صغيرا غير أهل لما هو فيه .

 

   صاحب المنصب الرفيع، من العيب أن يتعامل مع القضايا و الأحداث  بعقلية (مفسبك) غِرّ ؛ لأن كلماته، أو كتاباته تعتبر موقفا، و اتخاذ المواقف تترجم مدى الشعور بروح المسؤولية، و ليس الانجرار لحسابات، أو لنفسية مسكونة برواسب مندثرة ، يتعامل بها في عمله مع الآخرين. 

 

    موقف ظريف و طريف ذلك الموقف الذي كان مع الدكتو مصطفى ! و الأظرف منه أن العلّامة اللغوي و عضو المجامع اللغوية العربية في عدة دول عربية، إهتم لأداء رسالته العلمية، و لم تأخذه العزة بالإثم، و لا تعالى على السائق بردة فعل أحمق، بل مثّل قمة التواضع و الاتزان .

 

    لقد كان خادما لرسالته، مؤديا لمهامه، و لم يكن موظفا لنزعات ذاته، ولا غرور نفسه، و لا إيحاءات غيره، ولا هواجس نفسه  .

 

   كتب الخليفة أبو جعفر المنصور إلى سوار بن عبدالله قاضي البصرة كتابا فيه  : أنظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد و فلان التاجر فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار : إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أعطها لغيره إلا ببينة، فكتب إليه المنصور : و الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد، فكتب إليه سوار : والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق.

   فلما وصل كتابه إلى المنصور قال : مَلأتُها و الله عدلا، فصار قضاتي تردني إلى الحق !

 

   تأمل موقف القاضي الصارم في أداء أمانة مسؤوليته،  وتأمل كيف تراجع الخليفة و انصاع للحق، رغم رغبته في محاباة أحد قادته، فعاد يمتدح الموقف و يمتدح موقف نفسه، أنه ملأ الأرض عدلا !

 

   الإنصاف، هو الانتصار للحق،  و الموقف الحق لا يتحوّر بتعسف الألفاظ، و لا بتنميق العبارات، و تَولّد المبررات.

 

   المواقف محل اختبار للمرء، و في ميادين اتخاذ  المواقف تسقط أقنعة و تثبت أخرى.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان