وقفة معلم!
الساعة 08:57 صباحاً

معلم اختلط سواد شعره بياضه، يلبس بنطلون مقبول نوعاً ما، وقميص غير متناسق مع  هيئة جسمهِ الناحل، والذي يبدو إنه كان من قبل هذا ممتلئاً به، ثم صار بعده فضفاضاً بالمرة.. وهو يسير في طريق راجلاً، يلتفت إلى مصدر صوتٍ صادراً من مكبّرات إحدى المدارس معلنًا عن الاستعداد والتأهّب لبدء العام الدراسي الجديد، ثم يردف مرتجلاً القول: يرفع أصبعه للسماء لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ـ تغيرت ملامح وجهه وكأنما مُصيبة حلّت عليه، ليطلق العنان لزفرة صعدت من صدره كادت أن تخرج معها روحه، ومسترسلا دمعة راقت من عينبه على خدٍ ذو تجاعيد وفيرة، مبتلعاً الكلام إلّا من عبارة واحدة "رحماك أيها المغدور به ويرحمنا جميعاً، يواصل طريقه ومن خلفه تسير عربات الأجرة الصغيرة تشغّل المنبه له هكذا ـ بييييب ـ بييييب بغرض تحصيلة راكب، فيلوّح بيدٍ يصرفها عنه متابعاً السير إلى الأمام.

المشهد أبلغ وأبدع من كل وصف يقال فيه، فلا يضاهيه بكائيات ابو فراس من سجنه، ولا يمكن لريشة عمالقة الفن التشكيلي الأوربي في القرون الوسطى بيكاسو وديفنشي إلى ميكل أنجلو أن تجسّده، وبمعلم وليس حصراً، نستدل بإن معركتنا من أجل الحياة تسير على منحدرٍ كله شوك وأحراش فلمن ساعده الحظ لأن يبلغ النهاية ولم تبتلعه وعورة وتضاريس المكان والطريق، سيكون في أخرها مثخن بالإصابات وبالجروح.

يقول علماء النفس: غالبا ما يكون وقت الصدمة أهون بكثير من بعدها، فقد يشعر المرء بتأثير ما حل به من كارثة، وبشكلٍ متسارع يقابلها بردات فعل أكثر عنف وحدة، ولكن عندما تهدى الأعصاب ويخلد البال للراحة فيبدأ ذلك الشخس يسترجع الماضي وذكرياته إلا ليعود يدبُ في النفس حزن عميق ومخفي، تأثيره يكون أشد وطأة وأنكى من اللحظة الأولى.

وفي هذا حقيقة تلامس واقعنا اليوم لأبعد الحدود. فلا زلنا نعيش هول صدمتنا إذ نبكي بصوتٍ عالٍ، نهتك خِدر ثيابنا، نستنجد ـ نصرخ ـ نصرّح لمن حولنا أملاً في التخفيف عنّا مصيبتنا، ولا نحسب حساب غداً إلا عندما يحل غداً بكل تفاصيلة المرة علينا، ولنشعر حينها بالفراغ القاتل من أشياء كثيرة وهامة فقدناها واحد منها التعليم، وقد ذهبت أدراج الرياح عنّا، والبعض منها لا يمكن تعويضها فينا إلى الأبد.

 وبتدرّج مراحل اليأس والإحباط إلى فقدان الأمل بشكل نهائي ما يعني الكأبة التي قد يتساوى عند طور من أطوارها في نظر الإنسان الموت والحياة .. فأظهار معلم لما يدور بداخله من إعتمالات وهواجس، ومتلفظا بقصد الذي أنهدم بانهدام المعلم نفسه، وقد تجاوزت به الأمور لأن لا يجد في جيبة مبلغاً من المال يدفعه تحصيلة أجرة، وبإرادفه الشق الآخر من العبارة، تصبح المآساة اشتماليتها أوسع نطاقاً، فلكونه معلم؛ ومن المعلم من يمتلك بصيرة نافذه يختلف بها عن كثير من الناس، تمكنه أن يرنوا بها من المنظور القريب إلى البعيد.

وبهذا تكون الدمعة المنهمرة، والله اعلم ليس هي كما قد نظن حسرة وكدر على نفسه فقط، وما وصل إليه من تدهور الحال قرباً من ضد الحياة، وبقدر ما هي أيضاً الحانية علينا إحساساً ببلوغ الخطر مرحلة متقدمة منّا، وبالندم على مآلات أمور متعددة وكثيرة سيصاب الجميع ناتجها بالوهن والضعف مستقبلاً.
 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان