مأرب وأئمة الزيف
الساعة 02:52 مساءً

أثناء غَوصي في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وتاريخ الإمامة الزيدية تحديدًا، لم أجد لمأرب ذكر إلا في مواضع محدودة، وهي بمجملها أحداث مبتورة غير مُكتملة المعنى، صحيح أنَّها لم تعطِينا صورة شاملة للوضع، إلا أنَّها قدمت لنا صورة مُوجزة وعناوين مُختزلة يمكن الاستناد عليها، لتتضح تفاصيلها أكثر حال ربطها بتاريخ اليمن ككل. 
تعود علاقة أرض سبأ بدولة الإمامة الزيدية إلى العام 1012م، وذلك أثناء الصراع الدموي بين الإمامين محمد بن القاسم الزيدي والحسين بن القاسم العياني، وهو الصراع الذي انتهى بقتل الأول وسحله، وقد استعان الأخير - كما أفاد المُؤرخ ابن أبي الرجال - بمُقاتلين من البونين الأعلى والأسفل، والظاهر والمشرق ومأرب، وأضاف ذات المُؤرخ: «ولم يعدهم - يقصد العياني - بجامكية ولا إرصاد، وإنما وعدهم بالإباحة لأموال أهل صنعاء وسبيهم..»، وهو ما كان.
بعد تلك الحادثة بعدة سنوات، أعلن من ناعط ريدة الحسن بن عبد الرحمن نفسه إمامًا 1027م، وذكر المُؤرخون أنَّ ذات الإمام توجه عام دعوته إلى مأرب، ولم يتوسعوا في تفاصيل ذلك أكثر؛ بل ذكروا أنَّه حظي بتأييد الشيخ عبد المؤمن بن أسعد بن أبي الفتوح الخولاني، وأخوه المنصور، والشيخ يحيى بن أبي حاشد بن الضحاك، وأنَّه دخل صنعاء بـ 10,000 مُقاتل.   
بعد هذه الحادثة بـ 115 عامًا جاء ذكر مأرب للمرة الثالثة، لم يتوجه إليها هذه المرة أحد الأئمة؛ بل توجه إليها القاضي نشوان بن سعيد الحميري بعد أنْ اختلف مع الإمام أحمد بن سليمان، وبعد أنْ أوعز الأخير لأنصاره تشديد الخناق عليه، الأمر الذي جعله - أي نشوان - يُغادر بلدته حوث، وروى بعض المُؤرخين أنَّ أهل مأرب وبيحان ناصروه، ونصبوه ملكًا، إلا أنَّ سنوات حكمه وإقامته هناك لم تستمر طويلًا.
ثمة ارتباط وثيق بين مأرب وبيحان، ولا تذكر الأولى إلا وذكرت معها الأخيرة، خاصة في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وفي العام 1182م عزم الإمام عبدالله بن حمزة - حفيد الإمام الحسن بن عبدالرحمن السابق ذكره - على ضمهما لدولته، وذلك بعد ثلاث سنوات من دعوته، وأرسل من براقش لذات الغرض جيشًا بقيادة الأمير سليمان بن حمزة، وقعت بين الأخير وبين أهل تلك البلاد حروب كثيرة، كانت الدائرة فيها على الأخيرين، وقيل أنَّ الشيخ محمد بن أسعد المرادي كان أحد دعاته.
وحين امتنع أهل مأرب - بعد ذلك - عن الأذان بـ (حي على خير العمل)، كتب الإمام عبدالله بن حمزة إليهم عدة رسائل هددهم فيها بالعدول عن ذلك، ولم ينس في كل رسالة أنْ يذكرهم بفضائل أسرته، وأنَّهم أعلام الهدى، وأقمار الدجى، والأحق في الولاية، وقال في إحدى رسائله: «بلغنا أنَّ أموركم على غير نظام، وأنَّكم ماضون على الخطبة لبني العباس، ولا تجوز الإمامة إلا لمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر، وتطهير نفسه وأجناده من الفساد والمعصية، وأنتم في أمركم الغالب على غرور».
وأضاف: «بلغنا أنكم منعتم اليهود من الغنار والزنار، ولم يوفوا الجزية، وهي عليهم حتم من الله سبحانه، وتركتم رسوم الجاهلية، وأحكام الضلال باقية، وفدتم إلى بيحان مُعارضين على غير بصيرة، ولم تجيئوا بشيء يدل منكم على طاعة إلا طاعة اللسان، وذلك إيمان المرجية، وهو لا ينفع».
وأردف: «واعلموا أنا أولاد الرجل الصالح - صلى الله عليه - الذي شرع الشرائع، وسن هذه السنن، وأوضح رسوم العدل، وطمس رسوم الجور؛ فنحن أعلم الناس بآثاره وسننه، وطرائقه وعلومه، فلا تهلكوا أنفسكم بالجهالة والعمل على غير بصيرة.. واحمدو الله الذي أوصلكم وقتًا تقتدون في دينكم بعترة نبيكم، تأخذون الحق من أهله، وتقتبسون النور من معدنه، وتنتسبون إلى العترة الطاهرة التي خُلقت من طينة عليين، وربيت في حجور النبيين، ورضعت فيها دار الإسلام، وربيت في حجور الإيمان، ودرجت في منازل عمرها التنزيل، وخدمها جبريل، فأين تطلبون الهدى من غيرهم، فانظروا نظرًا يخلصكم»!
وحين جاء كتاب علمائهم بالامتناع، وبقائهم على مذهب السنة، رد عليهم بكتاب آخر انتقص فيه من الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهددهم بالحرب إنْ لم يتركوا مذهبهم، وأضاف: «فمن أجاب دعوتنا هذه العادلة غير الجائرة، الجامعة غير المفرقة، فهو منَّا وإلينا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن كره ذلك حاكمناه إلى الله سبحانه، وحاربناه، واستعنا بالله سبحانه عليه، فغلبناه إنْ شاء الله سبحانه، وإنَّما نحن نُقاتل هذه الأمة على تأويل كتاب الله، كما قاتل أبونا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تنزيله؛ لأنَّه حُطَّ بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، ونحن تراجمته وورثته، وعندنا معرفة غرائبه، وعلم عجائبه»!
وبلغ من سخريته أنْ خاطب أهالي مأرب قائلًا: «وارضوا بنا أئمة، نرضكم لنا تبعًا»، وزاد على ذلك مُستهجنًا:
وهل تمّت لكم أبدًا صلاة
إذا ما أنتم لم تذكرونا
وهل تجب الصلاة على أبيكم
كما تجب الصلاة على أبينا
وحين أذعن أهل مأرب لتهديداته، ارتجز قائلًا:
إذا بدت مثل السعالى من دغل
وطلعت فوق الرماح كالشعل
وأيقنوا أن الحِمام قد نزل
نادى مُناديهم على خير العمل
ووصل به الاستعلاء أنْ شبه نفسه بنبي الله سليمان بن داؤود عليهما السلام، وقال في رسالة أخرى مُهددًا: «أقول لكم ما قال عمي سليمان - عليه السلام - لأوائلكم: ألا تعلوا علي وأتوني مُسلمين، وإنَّ الإسلام لا يتم إلا بطاعة عترة خاتم المُرسلين.. وإنَّ البغي بمعصية إمام الحق يحل سفك الدم، واستباحة المال، وهدم الديار على مذهبنا ومذهب آبائنا من أهل البيت عليهم السلام»!
أذعن أهل مأرب لتهديداته، فيما أصر أهل بيحان على الامتناع، وفي ذلك قال صاحب (غاية الأماني): «نهض الإمام بنفسه إلى أهل بيحان، بعد أنْ كرر الكتب إليهم يأمرهم بلزوم الطاعة، وإقامة الجمعة والجماعة، والأذان بحي على خير العمل، فلم يمتثلوا، واجتمعوا للمحاربة، ففرق الله شملهم، وأمر الإمام بقطع نخيلهم وزروعهم، وعاد إلى براقش ظافرًا».
وحين خضعوا لحكمه مرة أخرى، كتب إليهم: «أما بعد.. فإنكم قوم وفقتم لإصابة الصواب، ومنحتم أفضل أسباب النجاة، وهو محبتكم ورثة الكتاب، وعترة الرسول سلام الله عليه وعلى آله، وقد بلغنا نصيحتكم، واستقامتكم، فاستقيموا واعلموا أنَّ الله لا يضيع أجر المُحسنين، فأحسنوا، ونحن الصادقون، فكونوا مع الصادقين، ونحن حزب الله، وحزب الله هم المفلحون».
عادت الإمامة الزيدية بعد وفاة الإمام عبدالله بن حمزة لانكماشتها الاعتيادية 1217م، لتعاود بعد 42 عامًا الظهور من جديد، وذلك بعد أنْ أعلن أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إمامًا، كانت الدولة الرسولية حينها تحت قيادة سلطانها الثاني المُظفر يوسف بن عُمر، تقوى خلال الأربع السنوات الأولى من حكم الأخير أمر الإمام الجديد، وسيطر على صنعاء ثلاث مرات، وحارب الرسوليين، وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مرة، رغم اعترافهم به حاكمـًا على المناطق الشمالية.
كان لانضمام الأمير الرسولي المُتمرد أسد الدين محمد إلى صف ذلك الإمام أثره البالغ في ترجيح كفته، امتدت سيطرته إلى ذمار وبيحان، وغزا مأرب بـ 1,400 مُقاتل، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم السني لبعض الوقت، والأذان بـ (حي على خير العمل)، وبمقتله علي يد بني عمومته 1269م، لم تقم لدولة الإمامة قائمة لعدة سنوات.
بعد تلك الأحداث بقرنين ونصف القرن من الزمن، توسع حكم الإمام يحيى شرف الدين وشمل معظم مناطق اليمن الشمالية والجنوبية والغربية 1540م، قسم ما تحت يديه من مناطق بين أولاده الخمسة الأكبر سنًا، مُوجهًا بذكر أسمائهم في الخطبة بعد اسمة، وأصدر مرسومًا بذلك، وهو المرسوم الذي ورد فيه اسم مأرب ضمن المناطق الخاضعة لحكمه، حيث قال: «إلى كل ولاة الحصون المحروسة، والثغور المأنوسة، والمدائن والحدود، وكل من جهات الطاعة لله سبحانه، من حدود حبوني (شمال شرق نجران)، إلى السراة، إلى نجران المشارق: الجوف وأبراد ومأرب والمصعبين، إلى رداع العرش، إلى حدود جهات يافع، والهياثم ونعمان وصهبان والدملؤة وما إليها من محروسات تعز، وقوارير ووصاب وريمة وبرع وحراز وملحان وحفاش وأذرع ومنابر، وجهات حجة والشرفين، والأهنوم وبلاد خولان، وصعدة وما والى ذلك من التهايم والنجود وغيره».
وما هي إلا سنوات معدودة حتى استعر الخلاف بين أولاد ذلك الإمام، انحاز لصالح ولده شمس الدين، مُتحمسًا لتوليه الإمامة 1545م؛ كونه الأكثر علمًا، والأفضل خلقًا، وكون ولده الأكبر الأمير المُطهَّر غير مستوفٍ شروطها. استغل الأتراك ذلك، وعززوا تواجدهم الأول في اليمن على يد الوالى أويس باشا، ثم أزدمر باشا، وقد سقطت معظم تلك المناطق تباعًا، وتمكن الأخير من دخول مدينة صعدة معقل أئمة الزيدية المُقلق 1553م.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان