طرأت في الأيّام القليلة الماضية تطورات في غاية الأهمية على المشهد اليمني. ليس مستبعدا أن تكون لهذه التطورّات أبعاد على الصعيدين الإقليمي والدولي، كذلك في الداخل اليمني نفسه. لم تعد مدينة مأرب مهدّدة بسقوط وشيك على الرغم من حصار الحوثيين (جماعة أنصارالله) لها من جهات عدّة. لم تعد إيران في وضع يسمح لها بالذهاب إلى مفاوضات في شأن ملفّها النووي مع الإدارة الأميركيّة في فيينا وهي تحمل ورقة مدينة مأرب. كان يمكن لمثل هذه الورقة أن تسمح لإيران بتأكيد أنّها استطاعت إقامة كيان سياسي قابل للحياة في شمال اليمن، عاصمته صنعاء.
يمتلك هذا الكيان، من الناحية النظريّة، القدرة على أن يكون دولة مستقلّة ذات وجود على البحر الأحمر عن طريق ميناء الحديدة وثروات كبيرة في ضوء ما تمتلكه مأرب. الأهم من ذلك كلّه سعي إيران عبر وجود كيان حوثي في شمال اليمن لإثبات أنّها باتت جزءا لا يتجزّأ من شبه الجزيرة العربيّة. تماما كما أوجد الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، في الماضي موطئ قدم له فيها. كان ذلك عن طريق وضع اليد على النظام في اليمن الجنوبي وتحويل “جمهوريّة اليمن الديمقراطيّة الشعبيّة” مجرّد امتداد للاتحاد السوفياتي وسياساته.
يبذل الحوثيون، أي إيران، منذ أشهر عدّة جهودا ضخمة من أجل وضع اليد على مدينة مأرب. لا تأبه إيران بعدد القتلى الحوثيين الذين يسقطون في مأرب وغير مأرب، طالما أن المطلوب تحقيق إنجاز يصبّ في مصلحة “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
لكنّ التحولات الأخيرة في سير المعارك توحي بتغييرات كبيرة. قد يكون أبرز هذه التغييرات بداية ظهور وعي أميركي لما هو على المحكّ في اليمن والنتائج المترتبة على توجه بدأ برفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الأميركية. سارعت إدارة جو بايدن بعيد دخول الأخير إلى البيت الأبيض إلى رفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الأميركيّة. ظنت أن ذلك سيسهل جلوس “أنصارالله” إلى طاولة المفاوضات من جهة والمشاركة في التوصل إلى تسوية توقف المعارك في اليمن من جهة أخرى.
◄ يبدو المشروع التوسّعي الإيراني وكأنّه بلغ مرحلة بداية التراجع. يمكن أن نكون أمام تراجع إيراني ومراجعة للسياسة الأميركيّة
ستظهر الأيّام القليلة المقبلة مدى عمق التغيير في الموقف الأميركي وما إذا كان هناك وعي لخطورة المشروع التوسّعي الإيراني. بكلام أوضح، ستظهر الأيّام القليلة المقبلة ما إذا كانت واشنطن بدأت تعي أن المشكلة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” ليست في رغبتها في الحصول على السلاح النووي فحسب، بل إن البعد الحقيقي للمشكلة يكمن أيضا في سلوكها خارج حدودها وفي الصواريخ الباليستيّة والطائرات المسيّرة التي تنشرها إيران في المنطقة. في سوريا ولبنان والعراق واليمن… وفي غزّة أيضا. وكانت هذه الطائرات المسيّرة وراء القرار البريطاني القاضي بإعلان “حماس” حركة إرهابيّة في ضوء “امتلاكها قدرات إرهابيّة واضحة”.
ثمّة تغيير آخر في غاية الأهمية أيضا على الصعيد اليمني. يتمثّل هذا التغيير في تحوّل حرب مأرب إلى حرب استنزاف بين الحوثيين والإخوان المسلمين ممثلين بحزب التجمع اليمني للإصلاح الشريك الأساسي في “الشرعيّة”. انتقل الإصلاح، الذي يسيطر على معظم القوّات التابعة لـ”الشرعيّة”، من موقف الرافض للزج بالمزيد من القوات في معركة مأرب إلى طرف يعتبر نفسه في معركة ذات طابع مصيري. ثمة من يرى أن التحالف العربي، الذي يبذل جهودا كبيرة من أجل منع سقوط مدينة مأرب، دفع في الاتجاه. في كلّ الأحوال، أن تحول معركة مأرب إلى حرب استنزاف طويلة بين الحوثيين والإخوان المسلمين يبدو أمرا مفيدا. إنّها حرب بين طرفين مستفيدين من استمرار المأساة اليمنيّة بعدما عقدا اتفاقات من تحت الطاولة في ما بينهما.
يبقى أن من بين أبرز التغييرات الأخرى في اليمن، دخول قوات جنوبيّة وأخرى شماليّة بقيادة طارق محمّد عبدالله صالح على خط الدفاع عن مأرب. انتقلت هذه القوات من محيط الحديدة ومن مواقع أخرى في الجنوب إلى جبهات مأرب. يعني ذلك أن هناك وعيا جنوبيا لخطورة سقوط مدينة مأرب. فسقوط المدينة سيفتح الأبواب أمام توغل حوثي في المحافظات الجنوبيّة عبر محافظة شبوة. لا يريد الجنوبيون العودة إلى الوحدة أصلا. بات مشروع الوحدة اليمنيّة مشروعا فاشلا منذ ما قبل سقوط علي عبدالله صالح، فكيف إذا كان الحوثيون، الذين لا يمتلكون أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو حضاري من أي نوع في صنعاء؟ ليس لدى الحوثيين ما يقدمونه سوى التخلّف والجهل والشعارات البالية مثل صرختهم المعروفة “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. هل تطعم “الصرخة” اليمنيين خبزا وهل تأتي لهم بالأدوية التي تمنع موت أطفال اليمن بالآلاف؟
يبدو المشروع التوسّعي الإيراني وكأنّه بلغ مرحلة بداية التراجع. يمكن أن نكون أمام تراجع إيراني ومراجعة للسياسة الأميركيّة. كانت الانطلاقة الكبيرة لهذا المشروع الإيراني من العراق في العام 2003. من الواضح، في ضوء نتائج الانتخابات النيابيّة العراقيّة الأخيرة أن العراقيين ليسوا متحمّسين للبقاء تحت الوصاية الإيرانية، لا مباشرة ولا غير مباشرة في ظلّ الميليشيات المذهبيّة التي يرعاها “الحرس الثوري”.
سيتوقف الكثير على ما إذا كان الحوثيون سيستولون على مدينة مأرب. سيتبيّن ما إذا كانت الإدارة الأميركيّة بدأت تعي معنى ما يدور على أرض اليمن. سيعني ما يجري في مأرب أن “الشرعيّة” بدأت تكتشف أنّها في حاجة بالفعل إلى إعادة تشكيل وأن ليس في الإمكان تركها تتصرّف من دون حسيب أو رقيب. كلّ ما تقدم عليه هذه “الشرعيّة” مثير للشفقة، لا أكثر، في وقت يبدو اليمن في حاجة إلى مقاربة مختلفة. تقوم هذه المقاربة على أن لا فائدة من أيّ بادرة حسن نيّة لإقناع “أنصارالله” بالتفاوض، خصوصا أن هؤلاء مرتبطون بأجندة إيرانية لا علاقة لها بمصلحة اليمنيين. لا يدلّ على ذلك أكثر من اقتحام مقرّ السفارة الأميركية في صنعاء واحتجاز يمنيين من الموظّفين المحلّيين في السفارة. هل تفهم إدارة بايدن أخيرا أن هذا هو الردّ الوحيد الذي يمتلكه الحوثيون على إخراجهم من لائحة الإرهاب الأميركيّة؟
نقلا عن موقع العرب
الأكثر قراءةً
الأكثر تعليقاً
-
أول تحرك يقوم به أبو زرعة في عدن بعد وصول العليمي مأرب.. أفرح سكان العاصمة
-
الحوثي يوافق على نقل مقرات البنوك إلى عدن بشرط تعجيزي.. تعرف عليه
-
هبوط مستمر لاسعار صرف الريال اليمني مقابل الدولار والريال السعودي اليوم الثلاثاء ..آخر تحديث
-
بعد انتهاء المهلة.. صنعاء على موعد مع مواجهات بين الحوثيين وهؤلاء
-
من رئيس تحرير كبرى الصحف اليمنية إلى راعي غنم
-
طرد مسؤولة حكومية كبيرة من مكتبها في عدن بعد قيامها بهذا الامر
-
بعد تحولها الى قضية رأي عام ..فضيحة المبيدات الإسرائيلية تطيح بنجل الأب الروحي للحوثيين من منصبه