عبد الرحمن البيضاني :القيل الذي لا يشبهنا
الساعة 03:37 مساءً

ليس مهماً إن كان عبدالرحمن البيضاني علمانياً أو متديناً، ريفياً أو بدوياً أو مدنياً، عبقرياً أو بسيطاً لا يعرف القراءة والكتابة، لأن البيضاني كان صانع قيم، وصُنّاع القيم لا يموتون.

لم يصنع القيم عبر خبرته ومعرفته الواسعة، أو علمه وتعلّمه وتعليمه الكبير، فقد كان في سنوات العشرين من عمره عندما قامت ثورة 26 سبتمبر المباركة. فكان يسائل الحياة غاضباً عن القهر والظلم الإمامي، ولايجد إلا جواباً واحداً هو ضرورة المشاركة في الثورة اليمنية، فكان أحد القائمين بها وحراس مرماها بكل قسوتها.

أدرك البيضاني باكراً خطر الهاشمية على اليمن، أرضاً وإنساناً ، وأول من حاول بعث الهوية القومية اليمنية، كان وقتها صبياً يغني فيه مسارح الأحداث الثورية والسياسية، من دون أن يعلم أن رفاقه الجمهوريين سيحاربونه ويشوهونه دفاعاً عن الهاشميين!

لم يعلم أن كل ماقاله سيتحقق بعد ستين عاماً من قيام الثورة، ولم يعلم أنه سيخلّد بعد موته مثل الأبطال القوميين في الأساطير الإغريقية.

لم يصنع البيضاني قيماً للفكر والتفكير، فالأبطال القومييون لا يصنعون قيماً بعقولهم وحس، بل أيضاً بوجودهم ذاته، لا يصنعون المعنى بنظرياتهم الفلسفية والعلمية والأخلاقية وحسب، بل أيضاً يخلقون المعنى بحضور غيابهم ويخلقون المعالم القومية النابضة في حياة شعوبهم وأجيالها المتعاقبة.

إيمان البيضاني بالهوية اليمنية لم يكن متعالياً أو مثالياً أو معقداً أو محكوماً بحسابات الربح والخسارة والمجد وكل المفاهيم المركبة. كان إيماناً بديهياً بسيطاً كشربة ماء، واضحاً كأفق مفتوح، قاسياً كشعور القهر، صادقاً كضحكة الأطفال.

لم يكن البيضاني مثلنا، كان حراً من الأيديولوجيا التي حاصرته فخرج منها بلا تنظير ولا اعتذار، حراً من صراع الأفكار الغيير يمنية. ترك وجهه مكشوفاً ومفتوحاً لرياح الهوية اليمنية، طحنته عواصفها وتناقضاتها وتقلباتها، تحدث عن خطر السلالة الهاشمية وشخص مواجع اليمن واقترح الحلول الضامنة عدم عودة الإمامية بثوب جمهوري، لكن للأسف، حينها لم يجد لصوته صدى في أرواح اليمنيين وعقولهم، عندما كان يلاحظ ازدياد مخاطر الهاشمية علي اليمن والجمهورية ومكتسباتها كان الحرف القومي المسطور سلاحه الأول،

حمل البيضاني السلاح من أجل تحقيق الثورة، ثم حارب بالكلمة ليحرس بقاءها على مدى ستة عقود، وهي ماتبقى من عمره، كانت البوصلة الجمهورية واضحة في عقله وروحه ضد الظلم، ضد القهر والعبودية، فحارب حتي النفس الأخير.

لم تكن بوصلة البيضاني هي الله، ولا الجهاد ولا السلاح ولا التحالف ولا الأيديولوجيا المستوردة من خارج منبع التاريخ اليمني، كانت بوصلته حرية الشعب اليمني واستقراره وتقدمه بدافع شعوره القومي والوطني والانساني بأحقية الدفاع عن شعبه ضد السلاليين المتربصين، وضد الظلم والقهر والعدالة المسحوقة.

كان البيضاني مثل الحقيقة الثابتة أمام عبثية دولاب الهاشمية الزمنية وأنصارها المنحطين، كل الأفكار والأيديولوجيات والمعاني الكبرى كانت تحت قدميه، أدوات غير مفهومة لما هو مفهوم لديه بالحدس القومي اليمني، طرق معقدة لطريقه الواضح.

لم تثبت تحولاته عن النهج الجمهوري والهوية القومية إلا أنه كالحياة، تتغير وتمضي، تعلو وتهبط، تجري وتتدفق ولا يعنيها سوى هدف واحد، هو خلق المعنى لمن يحيا.

كثيرون رحلوا، كثيرون هاجروا، كثيرون هُجِّروا، كثيرون غادروا جمهورية لم تعد تشبههم، كثيرون اختاروا طرقاً أخرى للجمهورية، كثيرون عادوا لمملكة الصمت والهزيمة، كثيرون فضّلوا الأمان على الحرية، كثيرون تابوا، كثيرون نسوا، كثيرون ماتوا قهراً. .. إلا القيْل عبدالرحمن البيضاني، لم تتغير بوصلته، لم يمت قهراً، لم يرحل إلا ليعود، لم يمت عجزاً، لم يمت صمتاً ... مات قوميا يمنياً واقفاً، مات فاتحاً صدره للعدم، مات غير معنيٍّ بالعدم، فالموت حرية أيضاً، لطالما ارتبطت الحرية في اليمن بالعدم.

مات بسيطاً كرائحة الخبز اليمني، غريباً كإله في الأساطير القديمة، قريباً كالمجد السبئي الحميري، أو حكاية من حكايا جدوده الملوك اليمنيين.

مات من دون أن يسأل ما معنى المعجزات، فقد كان يعيشها، من دون أن تعنيه معاني البطولات، فقد كان يجسّدها، مات مثل موت الله عند نيتشه، عندما لم يعد للأمل قيمة ولا معنى.

تجسّد حكاية عبدالرحمن البيضاني كل ما نهرب منه نحن الناجون الأحياء، الخوف من الموت والبكاء على الموتى، الخوف من مواجهة الإرهاب الهاشمي السلالي ومن قتلهم وقتالهم، الخوف من بعضنا البعض، الخوف من الفشل في استعادة الجمهورية وبناء الدولة، الخوف من انعدام المعنى، من مواجهة انعدام المعنى، الخوف من قسوة الحرية ولا أمانها في اليمن ، اليمن التي حولها الهاشميون الى مقبرة لنا..!

تجسد حكاية البيضاني حكاية ثورة 26سبتمبر اليمنية، حكاية الجمهورية التي رقصت وتمايلت على ألحان الأمل في بداياتها، الجمهورية التي نزفت أجمل أبنائها في العراء من دون أن يضمّدها أحد، الجمهورية التي أثارت رائحة دمائها الهاشميين ومعهم كل ضباع الأرض لتنهش في لحمها بعد ستة عقود من ولادتها، الجمهورية التي لبست ثوب القومية اليمنية عندما تُركت عارية أمام عين التاريخ الوقحة لجماعة الحوثي السلالية القادمة من مجاهل التاريخ، تهشها وتطمس ملامح وجهها وتسحق مفاتنها وجمالها...!

الجمهورية الباقية رغم أنف التاريخ وضداً من ميوله الفاشية، ميوله التي يحركها اليوم أتفه طقم حوثي هاشمي وسياسي حاكم في التاريخ المعاصر من مشارق الأرض إلى مغاربها.
 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان