وصاب إلى زبيد: انتفاضات لا تنتهي
الساعة 10:36 صباحاً

شكل اتساع مناطق نفوذ محمد الإدريسي في تهامة عامل قلق للإمام يحيى، ليوجه الأخير بعد شهر من دخوله صنعاء قواته المُتحفزة غربًا، في البدء سيطر سلمًا على ريمة ديسمبر 1918م، ثم بُرع فبراير 1919م، أما وصاب فقد سيطر عليها حربًا يونيو 1919م، وفي ذات الشهر أيضًا سيطر على زبيد سلمًا، وجبل راس حربًا، وصولًا إلى حيس، ثم الخوخة، ثم المخا.

سبق سيطرة قوات الإمام يحيى على زبيد قيام بعض سكان ذات المدينة بمُراسلته، طالبين منه مد سيطرته على بلادهم، وبالفعل استجاب الأخير لطلبهم، وعين محمد علي الذاري عاملًا عليهم أبريل 1919م، وذلك بالتزامن مع رفض أهالي وصاب المُجاورة الدخول في طاعته.      

كانت وصاب (عاليها، وأسفلها) إبان التواجد العثماني تابعة لقضاء زبيد التابع أصلًا لمُتصرفية الحديدة؛ ونتيجة لذلك الارتباط الجغرافي والتاريخي كلف الإمام يحيى عامل زبيد محمد الذاري بإخضاعها أولًا، وعين هاشم المرتضى عاملًا على عاليها، ومحمد الوزير عاملًا على أسفلها، وأرسل معهم بـ 2,000 مُقاتل، ومدفعين.      

ما أنْ حلَّت تلك القوات بمنطقة عُتمة المُجاورة، حتى وصلتها تعزيزات جمة بقيادة أمير ذمار عبدالله الوزير، وعن ذلك قال المُؤرخ الإمامي عبدالكريم مُطهر: «كان التقدم من الأجناد الإمامية إلى وصاب العالي بعد الإعذار والإنذار، ودوام إرسال النصائح لأهله، وجوابهم المرة بعد المرة بأقبح الجواب، وإصراراهم على العناد، والبقاء على الارتياب».    

  انقسم الجيش الإمامي إلى محورين، محور تحت قيادة عبدالله الوزير، وآخر تحت قيادة محمد الذاري، وكان هجومهم تبعًا لذلك من جهتين، استبسل ثوار وصاب العالي بادئ الأمر بالدفاع والمُقاومة، وصمدوا صمودًا أسطوريًا، ولولا نفاذ ذخيرتهم؛ ما هزموا، وما وصل الإماميون إلى منطقة الدَن، مركز تلك الناحية، وقد كان وصف المُؤرخ مُطهر للجحافل المُنتصرة مُبالغًا فيه، فهم حد وصفه «هاجموا البغاة إلى مواقعهم، ولم يهابوا رصاص بنادقهم، ولا تكاثفهم، وتساندهم».       تشير الذاكرة الشفهية في وصاب إلى كثرة قتلى الجيش الإمامي في تلك المعارك، فيما لم يشر المُؤرخ مُطهر إلى ذلك إلا تلميحًا، «استشهاد جماعة، وجرح جماعة»، هكذا قال، ولا ندري أي رقم ينضوي تحت هذه الجماعة؟ أما كلامه عن الثوار، فقد كان مُقززًا للغاية، ولا نعرف مدى صحته؛ كون الذاكرة الوصابية لم تُؤرخ لذلك.     

ومن ضمن ما قاله نقتطف: «وقتل من الباغين ما ينوف عن ثلاثين قتيلًا، وحزت رؤوس بعضهم، وأرسلت الرؤوس إلى بعض النواحي، ووصل منها إلى إب عدد، وجرح منهم كثيرون، وأسر منهم عدد غير يسير»، وأتبع توثيقة بقصيدة طويلة أرخت لتلك الأحداث، جاء فيها: ومـــا يسَّر البـاري فتـوحًا تتابعت  لهـــا غـررٌ وضـاحــةٌ وســفــور ولما طغى في أصاب وجاهروا ببــغيٍ دهــــاهم للحـتوف مثـيرُ فسل عنهم يوم انهزام جموعهم وقد قطعت رؤوس وأحرق دور       ولإكمال المشهد أترككم مع ما قاله المُؤرخ محمد زبارة: «وبعد هذه الحرب أقبلوا - يقصد أهالي وصاب العالي - إلى الطاعة، وطلبوا الأمان، وبذلوا الرهائن، فأخذت منهم جميعًا، وأقبل بعدهم أهل وصاب السافل، وضبطت أمور الجبل كله».      

  كانت زبيد الوجهة التالية، توجه محمد الذاري بقواته التي تناقص عددها إلى 1,000 مُقاتل إليها، ودخلها ذات نهار رمضاني 10 يونيو 1919م، وذلك بعد مرور أقل من شهرين من تعيينه عاملًا عليها، وهو التعيين الذي جاء - كما سبق أنْ ذكرنا - تنفيذًا لطلب بعض الأهالي.       شكك المُؤرخ التهامي عبدالودود مقشر في صحة هذه الرواية، وقال نقلًا عن بعض المُعمرين أنَّ القوات الإمامية سيطرت على زبيد بالخديعة، ولم يذكروا - أي أولئك المُعمرين - له تفاصيل تلك الخديعة، ولعلهم قصدوا بحديثهم قيام القاضي أحمد الأنباري (علوي النسب) بإرساله لأحد مشايخ المعاصلة المدعو عبدالرحمن خليل سرًا إلى الإمام يحيى، إلى جانب قيامه - أي الأنباري - بمُراسلة عدد من المشايخ، وإقناع السكان بمزايا الدولة الوليدة.      الحادثة الأخيرة تفرَّد المُؤرخ الإمامي مطهر بذكرها، وأضاف مُدلسًا: «ولما استقر العامل ومن معه في زبيد، تلقاهم الجميع بالترحيب، واستبشر بقدومهم، وأنس بهم جميع الناس على اختلاف طبقاتهم، وشرع العامل في ترتيب الأمور، وإزالة المفاسد»، وهو ما سنثبت زيفه في السطور الآتية.       

كانت زبيد - كما أفاد المُؤرخ مقشر - من أكثر المدن التهامية تضررًا، انهار مع نهاية التواجد العثماني اقتصادها، وتخلخلت بنية علاقاتها الاجتماعية؛ بفعل الحروب الأهلية (توسع ذات المُؤرخ في ذكر تفاصيلها) التي استعرت بين سكانها، والتي كان القاضي أحمد الأنباري السابق ذكره طرفًا بارزًا فيها، ورغم أنَّ الوالي العثماني محمود نديم سلم مقاليد الحكم للإمام يحيى، وقام بإيعاز من الأخير بمُراسلة أعيان ذات المدينة، طالبًا منهم الدخول في طاعة الدولة الإمامية الوليدة، إلا أنَّ أعيان زبيد وسكانها رفضوا ذلك، كيف لا وهي - أي دولة الإمامة - مَلئت تاريخ زبيد دموية، وكيف لا؟ وما تزال ذاكرة تلك المدينة العريقة حافلة بمآسي الأئمة السلاليين وأتباعهم.  

 

  «ما أقسى الهمج»، هكذا قال قائم مقام زبيد يوسف بك حسن مُتحسرًا، وذلك بعد أنْ نقل في مُذكراته يوميات احتلال العساكر الإماميين لمدينة زبيد، وكيف عاثوا فيها نهبًا وخرابًا، وهي جُلها توصفيات شنيعة، عرفتنا أكثر على سلوكيات هؤلاء العساكر المُتوحشين، وما حدث في زبيد يمكن اسقاطه بكل سهولة ويسر على باقي المناطق اليمنية التي خضعت حينها لسيطرتهم.       «كانت زبيد مُتغيرة الخَلق والخُلق؛ بسبب ما انساب في شوارعها من سرب المشارقة» هكذا أضاف يوسف بك، ثم مضى مُتحدثًا عن قيام هؤلاء العساكر المُتوحشين بنهب وتدمير منزل عبدالله مبارك، وقيامهم أيضًا بتحقير الأهالي المُسالمين، وبعض المأمورين، وإحالتهم لدار الحكومة وقلعة المدينة الحصينة إلى كومة من الفوضى؛ بل أنَّهما - أي الدار والقلعة - صارتا بفعل قذارتهم كإصطبل الحيوانات.    

  وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله المُتصرف حسن في مذكرات يوم الثلاثاء 17 يونيو 1919م (19 رمضان 1337هـ): «امتلأت المدينة بالقذارة والمشارقة - يقصد عساكر الإمام - بسبب كثرة شغبهم، ولغطهم بالزوامل، ونقاشهم مع رئيسهم لقلة موارد معيشتهم، وجوعهم الذي هم مفطورون عليه، ورجاسة أبدانهم في برك المساجد والبساتين، وكثرة تعديهم على الناس، وقد استمروا على توقيف الناس الصادقين للحكومة - يقصد الحكومة العثمانية - وأولي الجرأة الذين كانوا يعارضون الأنباري - يقصد القاضي الأنباري - على سوء عمله».       وفي النهاية اضطر هذا المُتصرف لمغادرة زبيد إلى باجل؛ لأنَّ جلافة هؤلاء الواردين دعته - حد وصفه - إلى الرحيل؛ كي لا يتألم من رؤية قذارتهم التي لا تطاق، والتي بالغ في توصيفاتها، وكيف انقطع هو شخصيًا عن أداء صلاة الجمعة كي لا يجتمع بهم في مكان مُغلق.       جُبل العساكر الإماميون على البداوة والتعصب المذهبي والمناطقي، بعكس سكان زبيد المسالمين والمتعلمين، وليتهم - أي هؤلاء العساكر - اكتفوا بما سبق ذكره؛ بل امتدت أيديهم لنهب كل ما صادفهم، حتى بيوت الله ومدارس زبيد التاريخية لم تسلم من أذيتهم، أرادوا - كما أفاد المُؤرخ مقشر - نبش وتخريب جدرانها العتيقة بحثًا عن الذهب، تمامًا مثلما فعل أقرانهم في مآثر مدينة تعز في ذات العام.    

  أمام ذلك الظلم المُتفاقم، سارع عدد من علماء زبيد بإرسال وفدين إلى صنعاء، وذلك خلال شهري يوليو وأغسطس من العام 1919م، التقوا الوالي العثماني محمود نديم، وأنّبوه على خضوعه للإمام يحيى، وعلى مُساعدة الأخير في السيطرة على مدينتهم، وفي الحضرة الإمامية احتد النقاش، وذَكَّر علماء زبيد إمام صنعاء بجرائم أسلافه، وفتوى المُتوكل إسماعيل بن القاسم المُجيزة لنهب أموال مُعتنقي المذهب الشافعي، فما كان منه إلا أنْ طمأنهم كذبًا، مُؤيدًا لكلام الوالي نديم بأنَّ وجود قواته سيكون مُؤقتًا، وذلك حتى قدوم القوات العثمانية من الاستانة!  

 والأكثر أهمية أنَّ سكان زبيد وضواحيها لم يواجهوا القوات الإمامية بالخنوع والذلة؛ بل تصدوا لها وبقوة، وما هي إلا أيام معدودة من سيطرة تلك القوات على تلك المدينة، حتى أعلنت قبيلة المعاصلة بقيادة كبير بني واصل الشيخ علي طاهر (علوي النسب) تمردها، وهي قبيلة كبيرة تقطن جنوب زبيد، وتربط الساحل التهامي بالجبل العتيد؛ والسبب - كما تقول الرواية الرسمية المُتوكلية - خلاف على القيادة بين الشيخ طاهر وبعض رؤساء القبيلة، وهو الخلاف الذي بدأ بداية ذات العام، وكان طرفاه الشيخ المذكور من جهة، والشيخ عبدالرحمن خليل من جهة أخرى، والأخير سبق أنْ ذكرنا اسمه، وهو من قام القاضي أحمد الأنباري بإرساله سرًا إلى الإمام يحيى.       تدخل القاضي أحمد الأنباري ومعه قائم مقام زبيد يوسف بك حسن لحل ذلك الخلاف في بدايته، إلا أنَّه - أي الأنباري - قام بتأجيجه لمصلحته، وحين قدمت القوات الإمامية بمعية الشيخ عبدالرحمن خليل إلى تلك الناحية، قام أبناء قبيلته (المعاصلة) بطرده، رافضين مشيخته، وأعلنوا تمردهم عليه وعلى داعميه.  

وجدها عامل زبيد محمد الذاري فرصة لإشباع نهم جحافله المُتوحشة، الذين سبق أن مناهم وسيده الإمام بغنائم كثيرة، خاصة وأنْ أولئك العساكر أعلنوا حينها تذمرهم، وهَمَّ كثير منهم بمغادرة زبيد، وقد وثق المُتصرف يوسف بك ذلك، وجاء في مُذكراته ما نصه: «اليوم - يقصد يوم السبت 21 يونيو 1919م - هرب ثلاثمائة من المشارقة لاختلافهم مع الذاري، جاعوا ولم يصادفوا ما ينهبونه حسبما وعدهم الإمام».        وفي صباح اليوم التالي أعاد العامل محمد الذاري تلك القوات؛ بعد أنْ أرضاها بعقير، وعن ذلك قال المُتصرف يوسف: «ارتد الهاربون إلى زبيد؛ لأنَّ مقدمهم - يقصد قائدهم - كان أتبعهم بعقيرة وترضية، ومواعيد عرقوبية، وكذلك ورد دليل من وصاب، حيث أنَّه استفحل أمر السيد علي طاهر صاحب المعاصلة، ويزعم الذاري أنَّه سيخرج بتأديبه، ولا شك سيكون الذاري حملًا، وعلي طاهر ذيبه».       ومن السياق اتضح لنا أنَّ انتفاضة المعاصلة كانت قد اشتعلت حينها، وذلك بعد أسبوع واحد من دخول العساكر الإمامية زبيد، إلا أنَّ خروج الأخيرين إلى تلك القبيلة تأخر لأكثر من خمسة أشهر؛ والسبب انتظارهم وصول الإمدادات، وكانوا - كما أفاد يوسف - قد عزموا على الخروج في يوم الاثنين 7 يوليو 1919م، ولكنهم كما قال ذات المُؤرخ «ثبطوا عن ذلك لجبانتهم، وتشتت أمرهم».  

استعرت المُواجهات، وامتدت إلى أزقة مدينة زبيد العتيقة، وتكبد الإماميون خسائر فادحة، وكانت هزيمتهم وشيكة، لولا أنْ جاءهم المدد من صنعاء ومن تعز في وقتٍ واحد، وذكرت إحدى الوثائق البريطانية أنَّ أمير تعز علي الوزير أرسل حينها بـ 700 عسكري، وعدد من المدافع، وهو الأمر الذي عده مؤرخو الإمامة مُعجزة من معجزات الإمام، وخلص المُؤرخ زبارة إلى القول: «فأسفرت المعركة عن هزيمة البغاة، وتفريقهم أيدي سبأ، واحتوى المجاهدون على أموالهم، وكانت شيئًا عظيمًا، وقتل منهم عدد غير يسير، وكان من جملة من فر منهم السيد علي بن طاهر وبعض قرابته».       توجه الشيخ علي طاهر شمالًا، ملتجئًا بمحمد الإدريسي، ليعود - كما أفاد المُؤرخ مُطهر - بعد مدة غير يسيرة من جيزان، طالبًا من الإمام يحيى الأمان، أما من تبقى من الثوار فقد تعرضوا للاعتقال، وزج بهم في سجون صنعاء، وتعز، وأيضًا زبيد، ومورس ضدهم - كما أفاد المُؤرخ مقشر - أشد أنواع التعذيب.      وعن تلك الثورة قال المُؤرخ الشاعر عبدالكريم مُطهر مُتشفيًا:

 

وفـــي شـــان المـعــاصـلــة التـي دعاها نــداء الحـق وهـــو جهيــرُ فصُمُّوا إلى أنْ بدد الجيش شملهم فـــذُلــُوا وقــالوا: الانقاد مجيــرُ       صحيح أنَّ قبيلة المعاصلة استسلمت للأمر الواقع، إلا أنَّ روح الثورة لم تغادر زبيد وضواحيها، فقد انتقلت شرارتها هذه المرة لتشمل قبيلة الرُّكب المجاورة أبريل 1920م، وهي قبيلة أشعرية تهامية تمتد من شرق إلى جنوب تلك المدينة المنكوبة، وتربط أيضًا ساحل تهامة بالجبال المُطلة، ولها تاريخ في مقاومة العثمانيين أثناء تواجدهم الثاني، وكان بطل تلك الثورة شيخ مشايخها عوض بن علي زربه.      كان الشيخ عوض - كما تشير المصادر الإمامية - قد أعلن ولاءه الإسمي للإمام يحيى، إلا أنَّ ظلم عُمال الأخير وجبروتهم في حق سكان تهامة دفعته للتمرد والثورة، مُتخذًا من منطقة الحسينية مقرًا له، ومنها ابتدأ شن غاراته على القوات الإمامية المُتواجدة في زبيد، ومنها أيضًا امتد نفوذه حتى وصاب عاليها وأسفلها، حيث كان قد شغل في الفترة الماضية قائم مقام الأخيرة باسم الدولة العثمانية، والأكثر أهمية أنَّ سكان زبيد، والمعاصلة، والزرانيق شاركوه ذلك النضال، وعن مُشاركة الأخيرين قال المُؤرخ حمود الدولة: «وكاتب المذكور - يقصد الشيخ زربه - إلى الزرانيق، فأمدوه برجالهم ورحالهم عاقدين بينه وبينهم المواثيق». 

  امتدت انتفاضة الرَّكب إلى داخل مدينة زبيد، واستمرت لشهور، أذاق خلالها الشيخ عوض زربه وأنصاره القوات الإمامية الويلات، وحين أيقن الأخيرون بالهلاك، أرسل الإمام يحيى إليهم بالإمدادات تلو الإمدادات، ومن ذمار أرسل عبدالله الوزير قواتٍ إلى وصاب، ومن تعز أرسل قريبة علي الوزير  قوات أخرى إلى زبيد، «من العصابة الزيدية، والقبائل العدينية» - حد توصيف المُؤرخ الدولة - ومن ثلاثة محاور، لتشتعل المواجهات في كلا المنطقتين، وبوقت واحد.

وفي جبل راس المُطل على تهامة، قاد الشيخ مُقبل عبدالعليم تمردًا عاصفًا على القوات الإمامية، تقطع وأنصاره للإمدادات المُرسلة من تعز، وقتل عدد من العساكر؛ الأمر الذي أجبر عامل زبيد على إرسال قوات بقيادة القاضي فتح الله المحبشي لإخضاعه، وقد تسنى للأخير ذلك، بعد ثمانية أيام من المواجهات، وعنها قال المُؤرخ مُطهر: «وأصيب من المُفسدين جماعة، كانوا أهلاً لكل إراعة، وقتل عدد من المجاهدين، ثم مال المُخالفون إلى الطاعة».       وفي زبيد كما في جبل راس انتهت المعارك بهزيمة الثوار، وفرار الشيخ زربة، وقتل الكثير من أنصاره، واستولى المتفيدون على حصنه، وعاثوا فيه نهبًا وخرابًا، وقال المُؤرخ مطهر عن ذلك: «واستولى المجاهدون على حصن عوض علي، وما فيه، وأخربوا بيوته، وأحرقوا قرى عديدة»، وهي الهزيمة التي تكررت في وصاب، والتقي الجيشان بعد أن أتما مهمتهما في الركب، وختم ذات المؤرخ نقله لتلك الأحداث بالقول: «وكانت الغنائم عظيمة، والمنة بهذا النصر جسيمة».  

  وهكذا توقفت المُقاومة المُسلحة في زبيد وضواحيها، لتشتعل في مناطق أخرى، في الوقت الذي استمر فيه عاملها الذاري وأصحابه في غيهم، فما كان من حسين الوصابي إلا أنْ عزم على التوجه إلى صنعاء، رغم مُحاولة أقرانه من علماء وأعيان زبيد ثنية عن ذلك، وبمعنى أصح حثه على تأجيل زيارته إلى فصل الصيف، إلا أنَّه أصر على التوجه إلى بغيته شتاءً، وكان خروجه من زبيد فجر يوم الأحد 3 يناير 1921م.       وعن خُلاصة تلك الرحلة قال المُؤرخ مقشر: «فظل - يقصد

الوصابي - يُراجع الإمام بمُراجعة طويلة، وضاق حاله، وتعب جسده، وأدرك أنَّ الإمام يستخدم معه التقية، فجسد ذلك في قصيدة أرسلها إلى الحضرة الإمامية، تعد منشورًا انتشر بتهامة، تداولتها الأيادي، وحفظتها الأفواه، وما زالت القصيدة حاضرة حتى الآن، فهي تعبر عن مُعاناة التهاميين جراء احتلال القوات الإمامية، وممارسة سلطاته بزبيد».       وبما أنَّ تجار زبيد كانوا هم المُتضرر الأكبر من الاحتلال الإمامي؛ فقد سارعوا بإرسال وفد من قبلهم، وذلك بعد أنْ فشل حسين الوصابي في مهمته، وقد تشكل ذلك الوفد من كلٍ من: محمد الهندي، ومحمد الجعماني، ومحمد الوجيه.       وقبل الوصول إلى نتائج زيارة هذا الوفد، نُعطي لمحة مُوجزة عن الظلم الذي تعرض له هؤلاء، نقلًا عن شاهد العيان يوسف بك، الذي قال في مُذكراته: «توقفت الأسعار، وبقي التاجر باحتيار، وخصوصًا تجار أهالي زبيد، أضحوا مسلوبي القرار، فما حصل لهم من جلافة المشارقة الأشرار لم يزل الغبار، والأرياح ملىئ البطاح، فأزال من القلوب الانشراح، لقلة الأمطار، ودولة الأشرار زادت في الأكدار». 

 

      أدت زيارة أولئك التجار إلى عزل العامل محمد الذاري، وتعيين الفقيه محمد عبدالله الشامي بدلًا عنه، والأخير تم نقله من منطقة حيس المُجاورة، فيما صار قضاء زبيد ووجباته بنظر الأمير عبدالله الوزير، وقد توجه الأخير لضبط أمور ذلك القضاء، ثم أدلف عائدًا إلى ذمار عاصمة ولايته.       هناك في المُقابل رواية مختلفة بخصوص عزل الذاري، مفادها أنَّ عزل هذا العامل لم يكن بسبب ظلمه وجبروته؛ بل لأنَّه فشل أمنيًا في كبح جماح الانتفاضات السابق ذكرها في مهدها، ولأنَّه لم يحل بين سيدة الإمام وعلماء زبيد وتجارها، وبمعنى أشمل لم يمنع توجه وفود الأخيرين إلى صنعاء.       المُؤرخ التهامي عبدالودود مقشر صاحب هذه الرواية، وبمعنى أصح صاحب هذا الرأي؛ استدل على ذلك بارتفاع الأعمال الإجرامية الإمامية في حق زبيد وسكانها، حيث قال: «فعمَّ الخوف والرعب، وزج بالناس في السجون المُتوكلية، وكُبتت الحريات، حتى في مجالس العلم والتنقلات، واعتقل العلماء والفقهاء، وفرَّ الكثير من العلماء والعامة إلى بلاد الله الواسعة».  

    وهذا العلامة محمد البطاح كان واحدًا من العلماء الذين غادروا زبيد - بسبب ذلك الظلم - إلى عدن، ومن الأخيرة كتب رسالة إلى يوسف بك 5 مايو 1923م، نقتطف منها: «وبلغكم من خصوص مشايخ اليمن - يقصد الشيخ عبدالوهاب نعمان وأصحابه - هم والسيد علي الوزير، وإرسالهم مقيدين بالحديد، وأخذ جميع أموالهم.. حتى أنَّه مسنا من طريق القاضي - يقصد أحمد الأنباري - والعامل - يقصد محمد الشامي - فحبسوا أولاد عمنا السيد محمد حسن، وأخيه السيد طاهر حسن، وصار "البقا" عليهم قدر خمسين نفر، وبحمد الله صار الخراج بعدكم، والمشايخ صنعاء، وبلغنا فكوكهم بالشرف.. وصار شرودنا عدن، واستقرارنا في بيت لائق في سكة عيدروس».

 والأكثر مرارةً أنَّ زبيد، مدينة العلم والعلماء، ومعقل المدارس السنية الشافعية، فرض الإمام يحيى وعُماله على سكانها وطلابها المذهب الزيدي كأساس للمرجعية الدينية، وأصبح تعليمه إلزاميًا، وهكذا - كما أفاد المناضل محمد الأسودي - قضى الإماميون على العلم، وأصبحت المدينة التاريخية بسبب ذلك الطغيان والتسلط المُفجع خاوية على عروشها، بعد أنْ امتلأت سجونها بالأبرياء، وهاجر من هاجر من علمائها، وسكانها، وهلك من هلك من الجوع.

نقلًا عن صحيفة "26 سبتمبر"

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان