الوعل .. الثقافة والرمز
الساعة 02:59 مساءً

لطالما كان اليمني معتزاً بشجاعته، مفتخراً بكبريائه، متباهياً بمنعته، مزهواً بنفسه، وقلما وُجِد مؤرخ عربي لم يروِ قصص وحكايا عن شموخ اليمني وعزة نفسه ومنعته.. وحين أراد اليمني القديم تطهير نفسه من أرجاس الخداع والضغائن والأحقاد وقتل غرور الأنا وتحطيم أوثان المعاصي أقام طقوس الصيد والقنص وهي طقوسٌ أشبه بالحرب.. شن حربه على حيوان تاه بتيه الشموخ والزهو بالنفس اعجابا بمنعته وشموخه.. ذلك الحيوان هو الوعل الذي راه اليمني بأنه شبيهه ومثيله، فأبى إلّا أن يحطم ذلك الغرور والكبرياء والخيلاء.. رغب في قتل ندية الصفات بمزج طقوسي لمفاهيم الحرب، حرب النفس وتطهيرها، وحرب على الوعل الرمز الحضاري المقدس وبصيده كأنّه يقتل بعض من نفسه فيه..

    قدس اليمني الوعل واعتبره أفضل الحيوانات البرية دوناً عن غيره لما له من قدرة على التنبؤ بالبرق، ومواقع سقوط الأمطار.. ففي فترات الجدب والقحط يصعد الوعل أعلى قمم الجبال لاستطلاع الأماكن المطيرة.. ذُكر في " نقوش مسندية" أن أهم مظاهر سلوك هذه الحيوان هي ظاهرة "جنون الأوعال" حيث يُرى الوعول وقد اهتاج وثغاء وأجفل واضطرب بسبب تأخر نزول المطر، وبينما الحال ذلك في القطيع ينخزل عنه أكبر الوعول جسماً وأكثرها قوة، فيعدو نحو قمم الجبال، ويختار أعلى نقطة فيها؛ فيعتليها جامعاً قوائمه الأربع في توازن عجيب، ثم يتلفت بعظمة في كل الاتجاهات ضارباً بصره إلى أعماق الأفق مميزاً أماكن لمعان البرق ونزول الامطار، ينتظر برهة، ثم ينحدر بأقصى سرعة نحو القطيع، وحين يصل تهدأ الوعول من اضطرابها وفزعها؛ لأنه سيقودها إلى مناطق الكلأ والماء.. فكيف لا يُقدس هذا الكائن المتنبي، حكيم القيادة!! ألا يستحق أن يُمنح التفرد والاستثنائية دون سائر الحيوانات ويخلد كرمز للإله عثتر.

    منذ عرف الإنسان اليمني الوعل ووقوفه بشكل مهيب فوق روابي القمم الشاهقة استوحى من شموخه فكرة الرمز للمعبود المقدس إله القمر "سين"، واستلهم من انحناءات قرونه استدارة شكل الهلال إذا بدأ في الأفق وأرسل شعاعه عبر الفضاء الرحب ليبدد وحشة الليل الرهيب وسط جبال وهضاب اليمن.

مولى الوعل

    تُشاهد الكثير من الوعول وهي تنحدر إلى وادي حضرموت الرئيس بحثاً عن مصادر المياه، ومن طريف ما يُحكى أن وعلاً انحدر إلى وادي حضرموت يوم عيد الأضحى وساقته الأقدار إلى باب بيت أحد الرجال الصالحين وكان لا يملك أضحية لعيده، فأمسك بالوعل معتبراً إياه هدية السماء إليه ليضحي به في العيد.. اشتهرت هذه القصة بين الناس وعُدَّت كرامة للرجل وأطلقوا عليه "مولى الوعل". 

إن الزائر اليوم لحضرموت ومدنها بشكل خاص والكثير من بيوتات وأديار اليمنيين يجد كم التعلق والعشق للوعل حاضراً وماثلاً في وجدان اليمني المعاصر، فزين واجهات البيوتات وزوايا المجالس من خلال صفوف من قرون الأوعال مختلفة الأحجام تزخرف البوابات الخارجية بمظهر يوحي باجتماع أصالة الماضي وشموخ وقوة الوعل.. كما أن الانسان القديم تفنن في نحت وتصوير الوعول بأبهى صورة وأنقى جمالاً دليلاً على ولهه وولعة بهذا الكائن الجميل اللطيف 

يوميات الوعل

   يبدأ الوعل نشاطه اليومي عند الفجر حيث يهبط القطيع من المرتفعات وسفوح الجبال في صف واحد عادة تقوده أنثى بالغة تسمى "العنود" ونادراً ما يكون القائد ذكراً ويسمى "قيدوم" ويمضي باتجاه الأودية والشعاب قاطعاً مسافة 4 - 6 كم باحثاً عن الحشائش والأعشاب وأوراق النباتات.. 

   يختلف نشاط الرعي والتغذية للوعل باختلاف فصول السنة، ففي فصل الصيف يبدأ نشاطه خلال ساعات الصباح الباكر، ثم يعود إلى مخبئه متجنباً حرارة الشمس، يستمر في مخبئه إلى ما بعد العصر حتى يخف وهج القيظ، ثم يخرج لاستكمال ما بدأه صباحاً حتى بعد الغروب، وفي الليالي المقمرة الصيفية يستمر بالرعي.. أما في فصل الشتاء فإنه يرعى طوال النهار وبهذا الفصل يكون موسم التكاثر والتزاوج.. تبلغ أنثى الوعل بعمر العام الواحد على الأكثر، ومدة حملها خمسة أشهر ونصف، تلد في أول حمل لها صغيراً واحد.. يسمى صغير الوعل "الغفر" إن كان ذكراً و"مغفرة"، عند الوضع تنعزل عن القطيع في مكان آمن، فإذا صارت مع وليدها سميت "أروى"، ومع تقدمها بالعمر ترتفع نسبة توأمة مواليدها.. وتكون فترة حضانته ثمانية أسابيع، حتى يغدو "أعصم" فتي وقوي، ثم ينظم إلى القطيع ويبدأ بالاعتماد على نفسه..  

   يتميز الوعل حين يرتعي في مرعاه بالحذر المستمر والحيطة الشديدة واليقظة، فيكلف القطيع أحد أفراده يكون رقيباً وحارساً، يتفرغ للحراسة والإنذار من أيّ خطر يقترب نحو أقرانه، ولا يرعى حتى تنتهي نوبة حراسته، ثم يأتي غيره ليحل رقيباً محله، فيتجه لأخذ نصيبه من الرعي، وإذا أحس الرقيب اقتراب خطر ما من موقع القطيع فإنه يطلق صوت "صفير" ويضرب بحوافره الأرض وينطلق لتحذير القطيع.. ويفضل الوعل أن يرمي نفسه من أعلى الجبال إذا خاف وحاصره مفترس فيقع على قرنيه وينجو.. تلكم هي الشجاعة والقوة التي سمى بها الوعل حتى على الإنسان.

الوعل في التراث والفن

     ارتبط الوعل وما يمثله من قداسة في ذاكرة الانسان اليمني منذ عصر سحيق، وعاش في مساحة واسعة من فكره ووجدانه الشعبي، تشكلت فيها نظرته كرمز للإله "عثتر" و "سين" ومظهر من مظاهر الكبرياء والغرور، وأصبح صيده طقساً دينياً وهواية ملكية حولته إلى صراع أزلي بين طريدة موصوفة بالأنفة والكبرياء ومطَارِدٍ عنيدٍ يرغب بالتفوق على تلك الكبرياء.. نُحتت على شرف مصرعه التماثيل البرونزية والحجرية وزُخرفت القصور والمعابد بصوره، ومن وحي شموخه وانحناءات قرونه تأتي انعطافات الأغنية الحضرمية، ومن تبختره وخيلائه جاءت رقصات "الزف" و "الرزيح" الشعبية.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان