علاج السِّحر والجِنّ في اليمن.. من الأعشاب والقرآن إلى الكهرباء
الساعة 07:22 صباحاً

كانت الأم في قريتنا تذهب بطفلها المعلول بالأنيمياء إلى قبر أو مزار ولي الله الصالح الذي شبع موتاً منذ قرون، وتتوسل إلى الله بكرامة وجاه الولي بعد أن تضع صُرَّة نقود وهدايا داخل الضريح، فيدلها قَيُّوم الضريح على موضع طين ولي الله الشافي، لتطعم ولدها أو بنتها قِطعة طين مباركة بدلًا من الأهتمام بتغذيته.
وقد شَبِعتُ أنا في طفولتي من بركات طين ضريح ولي ألله (السيد نور الدين) الذي كانت والدتي أطال الله في عمرها تعتقد إنها تُحَصِّنُني به من العين والحسد والأمراض.

فمزارات الأولياء في المعتقد الشعبي رمز للشفاء والبركة والصحة ، يقصدها المُعافى والمَريض بالأهمية نفسها، سواء في مواسم الزيارات وغيرها.

وكان السيد المعالج المرتبط بالجني الصالح يشترط لإخراج الجن والسحر من المريض ذبائح خاصة من النعاج والخرفان والديوك والبطّ والأوز والولائم فدية وقربة لشيخ الجان.
ويعلق المريض عزيمة على خصره(الحقاوة) أو رقبته كوسام كتبها له فضيلة السيد لمنع ضرر الجان والأنس والعين والحسد.
وفي رِيْق ولعاب السيد المُبَكتَر الشفاء من أمراض وأسقام مؤرقة، يشربه المريض من زجاجة مخصوصة؛ في تحريف لمعنى نفث الريق عند قراءة الرقية الشرعية بالقرآن على جسد المريض وليس لشربه !!.

* من الأموات إلى الأحياء *

تراجعت هذه الطرق قليلاً خلال الثلاثين سنة الأخيرة في اليمن لحساب ظاهرة علاج السحر والمس والعين بالقرآن الكريم والأعشاب، وانتشرت بكثرة في المدن قبل الأرياف، دون تراجع دور ومكانة السيد وكرامة ولي الله.
كانت طرق العلاج السابقة(صوفية) يلتمس فيها المريض الشفاء من الأموات والسادة الأحياء بالعزائم والتمائم والحروز، فيما موجة التداوي الجديدة أقرب مجازاً إلى مسمى(السُّنَّة) باعتماد أصحابها مجموع جزئيات تراث الأستطباب النبوي، كما ورد في أحاديث عن النبي محمد(ص) وطرق بعض كبار شيوخ وفقهاء  المسلمين دون تصحيح للممارسات.
وأطلق بعضهم اصطلاح(العلاج الروحي) على الطريقة الجديدة، مقابل مصطلح الطب الحديث (ألعلاج النفسي) على اعتبار القرآن الكريم شفاء من أعمال الشياطين وأمراض النفس ،واعتبار وسيلة التداوي  نفسها دعوة المريض إلى الله أكثر من علاجه، كون الأمراض والسحر والمس والعين وغيرها بنظرهم تصيب غالباً المفرطين في الدين والعبادات، وكل مقصر أو بعيد عن الله من الذين تتمكن منهم الأعمال الخبيثة والوساوس والضعف النفسي.

لعل المعالج الجديد(الشيخ) كما كان سلفه المعالج السيد لا يهتم بتشخيص المرض بل يقدم وصفته التقليدية الجاهزة لعلاج كل الأمراض بها نفسها، مزيج من القرآن الكريم وعقاقير وخلطات مكررة، يتعاطاها المصاب بالسحر ومسّ الجان والعين، كما هو شأن مريض الصَّرَع والأكتئاب والقلق، مع فارق استدلال تمييز الشيخ المعالج بين المسحورين والممسوسين والمصابين بالعين والنظرة وغيرهم بحركات وتشنجات جسم الشخص، ذكَراً أو أنثى عند قراءة الرقية الشرعية للأستدلال على وجود هذه الأمراض.
فعدم ظهور التشنجات الجسدية مع قراءة الشيخ الرُّقْيَة على المريض، تعتبر علامة على مرض نفسي وعصبي وليس إصابة الشخص بالسحر والمس والعين.
ولأنه لا علم للشيخ المعالج بنوع المرض النفسي، فيجتهد في قراءة الرقية الشرعية على المريض، لعل فيها شفاء كما هو مع المسحور والممسوس والمعيون، ويقرر كذلك وصفة أعشاب جاهزة تعطى لتهدئة أعراض المس الشيطاني.
ولا جدال على إن من القرآن الكريم ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وأن آية الكرسي وحدها تبطل السحر بحسب اعترافات ساحر يمني تائب إلى الله بَطُل سحر كان يقوم به بسبب قراءة شاب الآية في مجلس السحر.

* محاذير على هؤلاء *

إلا أن ملاحظات عديدة على المعالجين وليس على القرآن الكريم، أبرزها المبالغة في المظاهر الشكلية واشتراط ارتداء قميص واطالة اللحى، وكأن الله لن يشفي المرضى بدونها، بكل ما يحمله هذا السلوك من مظاهر الكهانة واحتكار الصِّنْعة أكثر من الإلتزام الديني، بينما قراءة المريض الرقية الشرعية على نفسه بحسب عقلاء المتفقهين أمثال الشعراوي والغزالي يعجل بشفائه أكثر مما لو قرأها عليه غيره.!!.
ورغم فوائد العلاج بالرقية الشرعية عن غيرها من أساليب علاج السحر والمس والعين، إلا أنها تحولت إلى مصدر كسب غير معيب لصاحبها، كأي خدمة اجتماعية مدفوعة الثمن، إلا من حالات قليلة يتقرب بها أصحابها إلى الله.
والأخطر على حياة المرضى هو أن افتقاد المعالجين بالقرآن الكريم إلى أدنى المعارف الصيدلانية بمحاذير وصف العقاقير النباتية السامة للمرضى تَسَبَّبَ بوفاة كثيرين بالمُسَهِّلات والمحاليل المجهولة وغيرها، مثل عقار حبة السلاطين، شربة الملوك المحظور استعمالها شعبياً في معظم دساتير الأدوية، ووصف محاليل وزيوت نباتية مجهولة المكوِّنات والمصدر.
ويمارس بعض هؤلاء أساليب عنيفة تجاه المرضى في جلسات ((علاج قرآني)) يتحول إلى ضرب مبرح وخنق قاتل وصعق بالكهرباء بزعم إرغام الجني على مغادرة جسد المريض، فتغادر روح المريض أحياناً قبل الجني بهكذا طرق خرافية بدائية، لم تثبت في كتب السنة النبوية.

 * ألعطَّارات والسِّحر والجن*

ولا تزال مدرسة وصيدلية عطارات اليمن في مدن مثل عدن وصنعاء وتعز وأب والحديدة، كذلك حاضرة إلى جانب طرق التداوي الأخرى في تقديم علاجها ووصفاتها التقليدية للسحر والمس والعين، فلا تزال عطارة القُصَيْص في كريتر أو عمر بجاش في الشيخ عثمان، والحمّادي، والشيباني في صنعاء وتعز، تعرض للمرضى تفّاح الجن،عين العفريت، والحلتيت الأسود الهندي، وعود الصليب الروماني والهندي، وحتى دم الغزال(حيواني) وبذور الحرمل، والفاسوخ اليمني والمغربي، وحتى ظفر الحمار(الحيواني) وعش الغراب، والزعفران، وصبغة النيل، و((شربة السلاطين، ومنفلة السحر)) في إخراج أعمال ألسحر، حتى إنه على مخاطر العقاقير الأخيرة التي بين قوسين لا تعدم إشادة العَطَّار ويقينه المطلق بنجاعة الوصفة وإبطال السحر من الجرعة الأولى التي يحذرك هو نفسه أن بعضهم قد يساق إلى غرفة الإنعاش أو المقبرة بسببها !!.

إنضم خلال العقد الأخير المشعوذون والدجالون من الجنسين إلى الإعلام الفضائي المفتوح، وعلى الهواء وقنوات التلفاز مباشرة، يعرضون بضاعتهم الجاهزة من أقصى بلاد المغرب العربي إلى مصر والخليج العربي واليمن، حيث يتم الترويج بالبثّ الحي لعلاج كل شيء من السحر والمس والعين والحسد والعقم ومفارقة الحبيب، إلى العجز الجنسي وإعادة الشيخ إلى صباه والمرأة إلى عذريتها، والتأليف بين الزوجين والعاشقين، وكل ماله علاقة بأمراض الروح والنفس والجسد.
حتى عندما لا تكون ثمة علاقة للسحر والمس والعين بالمرض، يكرس هؤلاء فكرة وجود قوى خفية وأسباب غيبية أخرى للمرض، ليظل الناس رهائن معتقدات الدجالين الوهمية في ابتزاز عباد الله من تجارة تغدق الأموال بالحرام والحلال.

ولا تزال المعتقدات الشعبية في اليمن تربط عوامل الشفاء والمرض والوقاية من الشرور والحسد والعين والسحر والمس بتوسل أشياء بسيطة، كأن تزرع نبات الصبر فوق سطح المنزل لمنع الشياطين، أو التبخير بعود الشذاب لطردهم(بَخِّروا بعود الشذاب لَقَد الجِنّي على الباب)، أو تضع قرون وعظام وجمجمة حيوان أو أعواد العوسج في مداخل البيوت وواجهاتها لمنع شرور الجن والإنس والوقاية منها.
وحتى ما يلبسه البعض عندنا له دلالته في اتقاء الشرور من تعليق أصداف البحر والخرز الأسود على أجزاء من الجسد، وفصوص خاتم اليد وأنواع الروائح والعطور وألوان الملابس التي قد تكون سبب سعادة أو تعاسة.. إلى ثقافة أخرى مرتبطة بما ينبغي فعله في النهار وتجنبه في الليل.

ولئن كان العالم القديم كله من شرق العالم إلى غربه بلا استثناء كمجتمع بشري قد عاش محنة التصورات نفسها عن الصحة والمرض، والداء والدواء، والخير والشر فقد كانت ولا زالت النباتات والأعشاب الطبية القاسم المشترك الأكبر كمصدر قداسة واعتقاد تاريخي جامح بنجاعتها في الشفاء من أمراض الجسد والسحر والعين والمس والجسد.
ولا تزال في الحقيقة ملهمة ومصدر العلم الحديث في اكتشاف أدوية الأمراض المستعصية.

ولا تعود حالة العبثية والفوضى المعرفية الراهنة حول تأثيرات الإصابة بالسحر والمس والعين إلى خرافة هذه المظاهر أو من كونها حقيقة مثبتة في الدين والواقع، بل ترجع إلى استغلال الظاهرة والتكسب منها في المجتمعات المنغلقة، والمبالغة في الترويج الإعلامي الفضائي لها والتوأمة والتلازم على أنها منشأ كل الأمراض، فكثر المعالجون والأدعياء من كل الطُّرُق والمذاهب، ومن يزعمون قدرات اتصالهم بالغيبيات والعالم الروحي للجن والإنس، واختراق الحواجز، والوصول إلى غاية الخلاص من الشرور والأعداء.    

ويستعرض كتاب(( نباتات وأعشاب علاج ألسحر في اليمن)) الذي وردت هذه المقدمة في سياقه مفهوم السحر في المعتقد الديني، بين الحقيقة والأدعاء، وتداخلات الأمراض النفسية والعضوية بما يعتقد أنها أعمال السحر والشعوذة أو المس والعين والقوى الشريرة..
ويستعرض المؤلف الكاتب والباحث الصحافي((عبدالفتاح الحكيمي)) بطريقة علمية مبسطة، أشهر العقاقير النباتية الطبيعية المستعملة في التداوي الشعبي باليمن ، طبيعتها وأسماؤها العلمية، ومكوناتها وجواهرها الكيميائية الفعالة، فوائدها ومضارها، واستعمالاتها في الطب الشعبي باليمن، والطب الحديث والقديم، والتداوي التقليدي في بعض البلدان.
ويطمح الكتاب إلى توثيق طرق التداوي بهذه النباتات، والتعريف بتأثيراتها بين الحقيقة والوهم، والتأكيد على وجود مسافات كبيرة بين الأمراض النفسية والعضوية وبين السحر والمس والعين.
وهذا البحث العلمي القصير هو نتاج رصد وتحليل ميداني من واقع التداوي الشعبي في بعض عطارات مدن عدن، تعز، وصنعاء، وبعض أرياف أبين، يافع، تعز، اب، ألمهرة، وغيرها.
وكما هو واقع ظاهرة الصحة والمرض والخير والشر منذ الأزل فإن المؤلف يعيد قراءة جزء عابر من الظاهرة في واقع المجتمع اليمني الأصيل.
 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان