عدن الأخرى.. ألرجال المنسيون.
الساعة 03:55 مساءً

يعيشون في مستوى خط الفقر والحاجة لكنك تجدهم في مقدمة صناع الحياة والجمال الخفيين الحقيقيين، وفي جبهة مقاومة مظاهر أيادي العبث وتخريب مساحات الجمال المتبقية لجوهرة عدن.

حرارة الشمس الشتوية اللاهبة بعد الحادية عشرة ظهراً لم تمنع هؤلاء الرجال الشرفاء من الأنهماك بالعمل كالنحل تحت القيظ.
ولا يشعرونك بالتذمر من شيء وأنت تتحدث إليهم، رغم بؤس الحال الذي يقابلونه بابتسامة وصبر وجَلَدْ ، عسى الله يبعث لهؤلاء من يعرف قدر ما يقدمونه من بهجة لهذه المدينة المنكوبة، في عملية تشبه جراحات التجميل لاستعادة عافيتها السياحية الحضارية من بين ركام الحرب والعابثين.

قال المهندس المشرف على تلك الحديقة الجديدة بين نقطة جبل حديد ودكة الكباش(يبان عليك صحافي ؟؟).. وكنت ألتقط بعض الصور لنباتات زهرية عندما انهمك الرجل وزميله في تشذيب ألأوراق وتسوية معابر المياه بين الأعشاب من آثار أقدام أطفال كانوا مع أهلهم قبلها في زيارة ترفيه ومرح دون علمهم أن ذلك بفضل الله وهؤلاء الطيبين الذين ربما لن يحظى أحدهم بوجبة غداء معقولة بعد كل هذا الجهد والعناء والكدح اليومي.
يحمل شهادة الماجستير من بلغاريا في الهندسة الزراعية.. وتداولت معه بعض أسماء النباتات العلمية التي بحثت عنها، وعن أزهار التكوما Tacoma stance، وكان لا يزال في قمة تفاعله ومزاوجته بين المعرفة والخبرة، وقبل ذلك الإخلاص والتفاني في أداء وظيفته التي لا تعطيه وزملائه الآخرين في باقي حدائق ومتنزهات عدن قيمة طعام عشرة أيام.
وعندما أرسلت لصديق بصور أزهار التقطتها من هذه الحديقة وحديقة عقبة المعلا- كريتر لم يصدق إن ذلك الجمال يحدث في عدن..

ما بين أزهار الكَنَّه Canna وأزهار شوكة المسيح الخرافية، وورد الهبسكس الصيني الفخم، إلى شجيرات اليوكا ونخيل النافورة والريحان والصباريات حيث يستلقي جمال أرحم الراحمين بسلام وعناية المخلصين.
فلا تزال صورة الخراب التي تعرضت لها المدينة مسيطرة على أذهان الناس مع تلاشي دعاية إعادة الأعمار ، ولا يخطر في البال إن المتنزهات التقليدية(رئة المدينة) مع البحر تستعيد بعض رونقها ولو ببطئ من هؤلاء وحدهم الذين يتوزعون اليوم بين جولات المدينة وبعض حدائقها ليهبوا للناس بعض جمال أرواحهم ولمساتهم الأنسانية.

وقبل أيام سألني أحدهم عن عشبة أصابع زينب الشهيرة بعلاج البرص والبهق فوجدتها بالمصادفة في حديقة جولة عقبة المعلا- كريتر التي تمثل غاية في الأدهاش لتخطيطها والعناية الفائقة بها واحتوائها مجموعة لا بأس بها من أبرز نباتات وأعشاب الزينة حول العالم..
وقد نشرت عدة لقطات من نباتات هذه الحديقة وغيرها في صفحتي الخاصة على موقع الفلورا العالمية ومشروع التعريف بنباتات الأرض (الخيري)، ونالت التقدير لتعكس في الظاهر صورة رومانسية للأوضاع على غير واقع عدن واليمن الحقيقي الكارثي..
ووثقت حتى الآن قرابة ٢٠٠ نوعاً نباتياً من مختلف مناطق اليمن على طريق استكمال ذلك بأذن الله تعالى.

لم يجد المهندس أحمد الشيياني ورفيقه المهذب ما يبلل به الريق ويطفئ العطش وحرارة الشمس القائظة ورطوبة خفيفة مختلطة بملوحة البحر ، واستأذنت للأبتعاد عنهم إلى ظل جدار قريب لتخفيف قيظ الظهيرة.

ومع شجيرة دبية الضبع، دبية الظبي التي انتقلت من اليمن لتزرع في أكبر عواصم العالم، سألني سعيد سالم الفني الحاذق في تربية نباتات الزينة عن إسمها الشهير، وهي العدنة، والعدينة، وتسمى الحبكنة في يافع، واسم جنسها العلمي من الأسم اليمني عدنة، عدينة Adenium obisum وقد أمكن التحكم بنموها وحجمها وعادت لتزرع كنبات زينة نفيس وفريد، ونشاهد عدداً منها في جولة عقبة المعلا.

 

ولم ينسَ سعيد الأشادة بدور إحدى البيوت التجارية المعروفة في العناية بهذه الحديقة النموذجية وتسهيل العناية بها.
أما الأوضاع الإدارية والمالية والبشرية لهذه الحدائق وغيرها في محافظة عدن فتتبع صندوق التحسين.. ولابد من انعكاس ذلك على معيشة وأوضاع هؤلاء العاملين والمهندسين قبل الحدائق والمزروعات، فذلك ما نأمله من الأستاذ محافظ عدن مراعاته بقدر شغفه الشخصي بوضع لمسة جمالية هنا أو هناك منذ تعيينه الإداري ، لإن استقرار معيشة أمثال هؤلاء المتفانون جزء من العناية بالحياة نفسها، وفي مقابل استمرار إرهاصات جمال الأماكن والمتنزهات والطرقات العامة وتطوير ذلك إلى الأجمل.

ولم يشكو أحد هؤلاء المخلصون المبدعون في مجالهم ومهنهم النبيلة أكثر مما ينطق به واقع حالهم الذي يحتاجون معه إلى حدود معقولة مساعدة بما فيها الزي الخاص الذي يميز طبيعة نشاطهم، وعناية خاصة بمعيشتهم ترتقي إلى ما يقدمونه من خدمات ترفيهية إجتماعية وسياحية للناس، وتطبيع لمظاهر الحياة في المدينة المتململة بين زخات الرصاص وعناقيد الأزهار.

وقد رأيت أحد مهندسي الحدائق والشمس عمودية وملتهبة يقطع مسافة طويلة على الأقدام ليصل إلى حديقة أخرى دون وسيلة مواصلات ولا حتى مقابل أجرة تختصر ضياع الوقت وتوفر الجهود والطاقات للمسات وجمال إضافي.
وتندرج وظيفة هؤلاء وعملهم النبيل ضمن اقتصاديات حركة  السياحة وتحفيزها واجتذاب فئات المجتمع المختلفة وانعاش النفوس والطاقات الروحية والمعنوية بكل مردودات ذلك على التجارة والمعنويات.

قال لي المهندس أحمد الشيباني  بعد تعبيرات الأمتنان والإعجاب  الكبيرة مني: كل هذا وستكتب فقط لقطة صغيرة عن مشاهداتك في عدن الغد أو ١٤ أكتوبر ..؟؟.
لكن كما يبدو نقضت التزامي وكتبت الآن نصف صفحة تابلويد بحجم صحيفة عدن الغد، وأكثر ربما.
أما من يقرأ لك خطك، ومن يعتني بأوضاع هؤلاء الذين ينشرون بيننا قيم الجمال والأمل ويقاومون بخبراتهم ومؤهلاتهم وتفانيهم وإصرارهم كل مظاهر التشوهات..
وما جزاء الأحسان إلا الأحسان.
 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان